كنتُ أتحاور مع صديقي وزميلي -الذي يصغُرني ببضعة أعوام- عن الأداء الجيد لمرؤوسه الذي التحق بالعمل معه حديثا. وقد فاجأني بأن قال لي أنه يحاول أن ينقل له ما تعلمَه مني عندما التحق بالعمل معي -كزميل في نفس الإدارة- منذ أكثر من عشر سنوات. وظلَّ يقول لي أنه تعلم مني كذا وكذا وأنني قلت له -حينئذ- بعض النصائح الجيدة مثل كذا وكذا. أحمدُ الله أن صديقي ذكر أشياءً محمودة وإن كنت لم أستطع أن أتذكربعض ما قال أنني نصحته به في الماضي - فلم تُسعفني الذاكرة. ولم أكن اتصور أنني تركتُ هذا التأثير في هذا الصديق. على الرغم من أنني أعرف أنني عادة أحاول تقديم النصح للزملاء عند الحاجة ولكنني لم أتصور أن يدوم تأثير ذلك لسنوات وأنه يمكن أن ينتقل إلى آخرين.
هذا الحدث ذكَّرني ولفت انتباهي إلى أمر خطير وهو أن الآخرين يقتدون بنا وإن لم نَشعر. هذا يحدث في العمل وفي الحياة عموما. فكم من مواقف يراها الإنسان فتؤثر فيه مدى الحياة. هذه المواقف قد تُعلِّمه ما هو محمود أو ما هو مذموم. ولذلك فأحب أن ألفت الانتباه في هذه المقالة إلى تأثير اتباعنا لأخلاقيات العمل في الآخرين.
أنت قدوة للآخرين
قد تجد بعض الموظفين والمديرين يتصرف بطريقة تتنافى مع أخلاقيات العمل في فترة ما في عمره ثم يترك هذا النهج ويحاول أن يتبع النهج السَوي في العمل. ولكن مع الأسف فإنك تجد ان هناك أجيالا من الموظفين قد تعلموا النهج غير السوي من هذا الموظف أو المدير ثم نقلوا ما تعلموه لمن هم أصغر منهم وهكذا. وهؤلاء لن يتغيروا بمجرد تغير سلوك هذا الشخص بل ربما يكونون قد التحقوا بشركات أو هيئات أخرى ولم تعد تربطهم به أي صلة. احذر….أن تكون هذا الشخص! احذر أن تنقل أخلاقيات سيئة في العمل للآخرين بالقول أو بالفعل! احذر أن يأتي زميلك عندما تَكبر سنك ويقول لك لقد تعلمت منك منذ أربعين سنة التهرب من العمل أو تقاضي الرشوة أو النفاق أو الخداع أو إلقاء المسئولية على الآخرين…….!
قد تتصور أنك هَملا في الناس ولن يقتدي بك أحد ولكن في الواقع فإن الكثيرين من حولك وخاصة من هم أصغر منك سنا وأقل منك خبرة قد يقلدون أفعالك ويستمعون لنصائحك. فقد يتعلم منك الآخرون كيفية التهرب من القيام بما هو واجب من واجبات العمل وقد يتعلمون منك كيفية القاء التُهم على الزملاء وكيفية تملق الرئيس. قد يتعلمون منك ذلك نظرا لأنك تفعل ذلك أو لأنك تنصحهم بفعل ذلك. وقد يستمر تأثير ذلك لسنوات وسنوات وأنت لا تشعر. أنت لست هملا في الناس بل أنت قدوة لبعض الناس وإن لم تقصد وإن لم تعلم. إنه لأمر خطير…أليس كذلك؟
ولماذا لا تكون قدوة حسنة فتنقل المبادئ الطيبة في العمل والإدارة للآخرين؟ لماذا لا تكون مديرا يتعلم منك المرؤوسين التواضع والعدل والصدق والأمانة والجدية في العمل؟ قد يراك مرؤوسك أو زميلك تبذل الجهد لكي تقوم بواجبك بشكل جيد فيؤثر ذلك فيه وينتبع نفس الأسلوب. قد ترى مديرك حريصا على ألا يظلم احدا فيؤثر ذلك فيك وتقلده عندما تصبح في موقع المسئولية. قد ترى زميلك حريصا على احترام وقت العمل فتتبع نفس نهجه. قد يراك مرؤوسك أمينا مع العملاء فتجده أمينا معهم.
أنت قدوة بأفعالك
شئتَ ام أبيتَ فإن الآخرين يتأثرون بأفعالك وقد يقلدونك سواء نصحتَ أو لم تنصح سواء قصدتَ أو لم تقصد. إن الموظف الصغير عندما يجد الآخرين لايبالون بأخلاقيات العمل فإنه قد يقلدهم، ما لم يكن لديه وازع أخلاقي قوي. إن الشخص غير المهذب حين يذهب لمكان يكون فيه الناس يتعاملون بأخلاقيات عالية فإنه يحاول جاهدا أن يظهر باخلاقيات مقبولة لكي لا يكون محل احتقار الآخرين. هذا ما يحدث في العمل. إن الموظف الجديد أو الصغير نسبيا يقلد الآخرين فإن وجد أن الغش بكافة أشكاله هو أمر مُستقبح بينهم فإنه يبتعد عنه وإن وجد مديره أو زميله يكذب على الآخرين فإنه قد يتأثر بذلك وقد يظل يكذب بقية حياته في العمل وقد يمتد التأثير خارج العمل.
انتبه لما تنصح به الآخرين!
أنت في جميع الأحوال قدوة للآخرين بفعلك وإن لم تقصد وإن لم تُرد. وهناك آخرون يحرصون على نصيحة الآخرين بالقول. وهذه النصائح قد تَحض على أخلاقيات العمل وقد تشجع على ما يُنافيها. فقد تنصح زملاءك بأداء واجبهم بشكل جيد وقد تنصحهم بالأمانة والصدق مع الزملاء وقد تنصحهم بالصدق مع المديرين وقد تنصحهم بعدم خداع الموردين وقد تنصحهم بالتعاون مع زملائهم وقد تنصحهم بعدم ازدراء مرؤوسيهم …..وقد تنصحهم بالغش والخداع والكذب وتعمد الإساءة للآخرين…..
في بعض المؤسسات تجد العاملين يفتخرون بتفهمهم لبعض النظريات والأمثلة غير الأخلاقية. فتجد هناك نظريات للتهرب من المسئولية ونظريات لإلقاء التهم على الآخرين ونظريات في خداع العملاء. وتجد كذلك أمثلة تدعو إلى عدم الامانة في العمل مثل المثل الشهير: تعمل كثيرا فتخطيء مثيرا فلا تترقى، وتعمل قليلا فتخطئ كثيرا فلا تترقى. هذا مثل يدعوك إلى تعمد الإقلال من مجهودك في العمل وتجنب الاجتهاد في العمل. وهناك أمثلة كثيرة يتم تناقلها عبر الأجيال كمثال للقدوة السيئة.
انتبه لما تقوله للآخرين ولا تنصح الآخرين بأخلاقيات سيئة في العمل! لا تأخذ الأمر على أنها مجرد كلمات لا قيمة لها فقد يتأثر الآخرون بآرائك ويمتد هذا التأثير لغيرهم.
هل تمتدح الأمين أم الخائن؟
أحيانا تجد زملاءك يمتدحون أحد الزملاء أو المديرين ومن الطبيعي أن هذا المديح يدعوك لأن تَحذُو حَذو هذا الشخص لتكون محل تقدير الآخرين. عندما يكون هذا التقدير والمديح لشخص أمين في عمله أو صادق في تعامله فإن هذا يدعو الآخرين لاتباع هذا النهج الحميد. ولكن مع الأسف فإنه في بعض الأحيان يكون هذا التقدير والإعجاب نتيجة لقدرة هذا الموظف أو المدير على التهرب من المسئولية أو خداع العملاء أو خداع المرؤوسين أو تضليل المديرين. فتجد الآخرين يمتدحون هذا الشخص بقولهم: إنه أستاذ، إنه مُعلِّم، إنه شخص ذكي جدا، إنه خبرة كبيرة في التعامل مع العملاء أو المديرين، إنه رائع….هذا التقدير لمثل هؤلاء يجعل الآخرين -وخاصة من هم أصغر سنا- يحاولون تقليد هذا “الأستاذ” فيصبحون “أساتذة” في الخداع والغش.
بالإضافة لذلك فإن هذا الشخص عندما يُمتدح بسبب أفعاله السيئة فإنه يتمادى في ذلك ولا يجد غضاضة في ذلك. فلو كان الشخص الذي يكذب في العمل يجد الازدراء من الآحرين لما تمادى في ذلك. ولكن عندما يكذب الموظف او المدير فيجد زميله يقول له “أستااذ…أستااذ” فلا شك أن هذا يشجعه على الاستمرار في الكذب والإبداع فيه. لو وجد الشخص الذي يخدع العملاء أن مديره يكره ذلك وأن زملاءه يرون هذا غشا وخداعا لما استمر في ذلك او على أقل تقدير لما استمر في ذلك علانية.
احذر أن تمتدح زميلا او مديرا أو مرؤوسا بسبب أفعاله المُنافية لأخلاقيات العمل فإن الآخرين يستمعون إليك وقد يقلدونه بسبب مديحك هذا. إن أقوالك لها قيمتها ومديحك للآخرين ليس أمرا تتضاحك به بل هو أمر له تأثيره
إن أقوالك وأفعالك وتقديرك للآخرين يؤثر فيمن حولك من زملاء ومرؤوسين وقد يُشجعهم على الالتزام بأخلاقيات العمل وقد يُشجعهم على عدم اتباعها. أنت قدوة للآخرين وما تفعله او تقوله له تأثيره الكبير. أنت قدوة للآخرين وإن لم تشأ وإن لم تشعر…..