كانت بداية الاهتمام بالإنسان داخل الوحدات الإنتاجية نقلة نوعية في تطور العلوم الإدارية، إذا نَظَرْنَا إلى طبيعة الحضور الإنساني عموما في المعرفة البشرية الحديثة، فهذه الأخيرة لم توله ذلك الإهتمام المطلوب نظرا لسيادة فكرة الآلة، وتعرض الإنسان الحديث لسلسلة من الهزائم النفسية التي أسقطت قيمتَه وحَطَّتْ من قدره، وأسقَطَت من الاعتبار جانبه الإنساني.
فالإدارة هي في الحقيقة إدارة أفراد، ولا يمكن نجاحُ الإدارة الفعلية لهؤلاء إلا عن طريق دراستهم كأناس وتحليل سلوكهم كيفما كان نوعه ظاهريا أو خفيا، وذلك بقصد فهم مغزى هذا السلوك ودراسة آثاره على مختلف السياسات والقرارات الإدارية، والاهتمام بالجوانب النظرية والعلمية لتطبيق مبادئ السلوك الإنساني التي اكتشفتها فروع علم النفس المختلفة في مختلف المجالات ومنها المجال الإداري.
وقد تبيَّنَ جَلِيًّا أن للعلوم السلوكية أهمية بالغة داخل الإدارات، فهي تمنحُ الرئيسَ أو القائدَ داخل الوحدة الإنتاجية منطلقًا واسعا يفهمُ من خلاله السلوكَ الإداري، وقد وَضَحَتْ أهمية مساهمة العلوم السلوكية في مجال تهييء وتدريب رجال الإدارة بعد أن برزت أهمية الجانب البشري في المشروع، فكثير من الباحثين يذهبون إلى أن المشروع الحديث يتكون من أزيد من 85 / أفراد، بينما يتوزع الباقي بين المواد والمال، أي أن النسبة العليا من الأصول الإنتاجية بالمشروع عبارة عن أصول بشرية، بالتالي فإن أسبابَ فشل المشروعات يعود بالأساس إلى الأفراد أو إلى عدم كفاءة المديرين، وبصفة عامة فإن أغلب المشكلات الإدارية إنسانية سيكولوجية بالدرجة الأولى.
وهكذا تم إسقاط النظريات المختلفة التي تصف السلوك البشري وتعالجه على الإنسان داخل الإدارة، وأصبح القادة يتعاملون مع المشاكل التي قد يعاني منها المرؤوسون على أساسها، فيضعون برامج موسعة لنوعية الحوافز بحسب الحالات التي تقتضيها نظريات الدوافع، وما تذهب إليه من خضوع النفس البشرية لمجموعة من الضغوط والمحددات التي تنطلق في الغالب من المحركات الطبيعية الغريزية، ويخاطبون العاملين لديهم بحسب ما توصلوا إليه عن نوعية تفكيرهم والدرجات المتفاوتة لذكائهم، ويراعون أثناء التعامل معهم طبيعة اتجاهاتهم التي اكتسبوها من المجتمع، والخصائص المتميزة التي تطبعُ شخصيتهم وتؤثر في تصرفاتهم.
وكانت النتيجة المباشرة حصول تحول نسبي في نوعية العلاقات والتعامل الذي يربط القيادة بالمرؤوسين، بحيث لم يعد هناك ذلك النوع من التجاهل المستمر لنوازع النفس البشرية، والتعامل مع التصرفات الخارجية بسطحية لا تَنْفُذُ إلى أسبابها والدوافع المؤدية إليها، وكان المرؤوسون يعامَلُونَ بحيفٍ عندما يُنظَرُ إلى ظاهرهم وتهمَلُ ذواتُهُم، بينما تمثلت النتيجة غير المباشرة في إهمال جانب آخر من المكونات الإنسانية، أو لعله عنصرها الأساسي ومعدنها الجوهري، وهو الجانب الأخلاقي.
ويرتبط المعطى الأخلاقي أساسا بالجانب الإنساني، بينما تراعي مختلف النظريات السلوكية الجانب البشري فحسب، والفرق بينهما أن الجانب البشري يتعلق بطبيعة الغرائز والخصائص المشتركة بين البشر، بينما يرتبط الجانب الإنساني بالخصائص الروحية ونوازع الفضيلة المتفاوتة بين كل إنسانٍ وإنسان، بحسب معيار التفاوت الذي يتجلى في درجات المخالفة أوالاتباع للعادات السيئة أو الحسنة داخل المجتمعات، والتعلق بالمبادئ الفطرية النقية التي تواجَدَتْ بتواجد الإنسان.
وقد أثبتت التجارب أن الأخلاقَ لها القدرة الباهرة في تحويل سلوكيات العاملين والقادة معا، فالنفس الإنسانية لا تستقيم على حسن التعامل إلا بضبطها ومخالفة ميولها الغريزية وحسن توجيهها من خلال المعطيات الأخلاقية، وفي حالة إطلاق العنان لميولاتها وحاجياتها المتزايدة باستمرار فإن نوازع الفضيلة لديها تضمحل، فلا يُجدي الاعتماد على النظريات السلوكية في محاربة مظاهر الفساد الأخلاقي داخل سائر المؤسسات ومنها الإدارة.
ومما يزيد الأمر تعقيدا أن كثيرا من النظريات التي اعتُمدت كأساس لعلم النفس الإداري لم تُوَفَّقْ في علاج المشاكل السلوكية، نظرا لأنها دائما تركز على الجانب الغرائزي في تفسير تصرفات الإنسان، ولا تعتد بالفكرة الأخلاقية التي تنبني على اعتبارِ قيم الفضيلة فوق كل شيء، وإن أدى ذلك إلى ضبط الغرائز وتحديدها بما يحول دون انفراط عقدها، فلا يمكننا الحصول على موظف أو عامل نزيه اليد إلا عندما تنحبس لديه غريزة حب المال وتنسجِمُ ذاته بخلق القناعة، وإلا فإن الاعتمادَ على نظريات تراعي الغرائزَ وتُنَمِّيها سيزيد من ظواهر الفساد ومظاهر الرشوة والاختلاس، حتى وإن كانت هناك محاولات للتحفيز المادي، لأن النفس البشرية غير المنضبطة للأخلاق لن يغنيها شيء، لأنها تتطلع دائما إلى المزيد والمزيد.
إن حقيقة السلوك البشري لا تزال غامضةً على المعرفة البشرية، فحياة الإنسان لا تزال في مرحلة استكشاف، إلا أن كل نظرية ـ بالرغم من ذلك ـ تستأهل منا التقدير والاعتبار، لأنها تظل في حد ذاتها محاولةً جديدةً للوصولِ إلى الحقيقة، وحتى النظرية المخطئة وإن فشلت تظل حافزا لإيجاد نظرية أصلح.
إلا أن معيار الصواب يظل نسبيا في جميع الحالات، فلا تعدو المعرفة البشرية أن تكون مجرد اجتهادات واستنتاجات قد يصيب بعضها، ويظل جوهر الحقيقة بعيدا وإن اتضَحَتْ بعضُ جوانبه.
إن التعلق ببعض النظريات قد يصيب المعرفة العلمية بالشلل، نظرا لما يمكن أن توقع فيه من اعتقادٍ بإطلاقيتها وصوابها، مما يؤدي إلى تَجَذُّرِها وسَرَيَانِها في جسم المعرفة بما قد يجعل منها أصلا معرفيا ثابتا، فلا تلبثُ أن تؤثر على الأنماط المعرفية الأخرى وتستشريَ من مجالاتٍ نظرية إلى أخرى عملية حيوية، ومن العلمية العملية إلى أخرى غير علمية ولا عملية، حتى يعتقد المفكر والمثقف والباحث في كل مجال من تلك المجالات بمشروعية التفكير على منوالها والبحث وَفقا لمعطياتها، فتَغدُو وَحْيًا يعسُرُ انتقادهُ ولا يُسْمَحُ بمناقشَتِه.
والمعرفة البشرية تجتاز خلالَ حياتها الطويلة مراحل صعود ونزول، فقد ترتقي في مرحلة من المراحل حينَ التوصل إلى حقائق قد تغير من مجرى الحياة البشرية، وقد تنزِلُ إن تَجَلَّتْ حقائقُ وتبيَّنَتْ معالمُ كانت غائبة عن الوعي الإنساني، فلا تكادُ تخلو نظرية من عيبٍ وفكرةٌ من نقد، وإلا فإن الذي يَضُرُّ بالمعرفة البشرية هو المبالغة في تصور القيمة العلمية لمختلف النظريات.
وتصبحُ الأفكار الظنية حقيقة مطلقةً عندما تتعالى الأصوات هنا وهناك لتزكيتها وتأييد مضامينها، ويتحول الإقناعُ إلى تحويلٍ للأفكار بأساليب علمية مقصودة تستخدمها مختلف الهيئات والفئات والحكومات لتحقيق غرض ما، واضرب لذلك مثلا حرب الدعايات التي تجعل من الأوهام حقيقةً تنطلي على عقول الملايين في أنحاء العالم، وتُخَوِّلُ للشركات والإدارات أن تستعمل وسائل الصحف والإعلام العام للدعاية والإقناع بحيل الألوان والموسيقى التصويرية لأجل التأثير على الجهاز العصبي للإنسان.
وفي وسط من الصخب يستفحل الفساد الإداري برغم الجهود الدائبة للإصلاح، ولا جدوى لإصلاح داخلي يقابله فساد خارجي، فالإنسان داخل الإدارة إنما هو صنيعة بيئته التي نشأ عليها، وهي بيئة أصبح الإنسان فيها عرضةً للضياع عندما جعَلَته النظريات آلةً حيوانيةً تتقاسَمُهَا الغرائزُ لتَتَشَذَّرَ إلى أجزاءٍ لا يكاد يتصل بعضٌ منها ببعضٍ ليُكَوِّنَ معنًى، وإنما ينفصِلُ كيانُهُ بين نقيضين: قلقٌ وضجيجٌ حياتيٌّ يهدد راحته ويَنَالُ من أعصابهِ، ويجعلُهُ يقضي حياتَهُ راكضاً خلفَ غرائزه وحاجاتها التي لا تنقضي، حتى يجدَ نفسه في آخر المطاف وقد أنهكها النّصَبُ فلم تحصل إلا على سراب، أو هدوءٌ وعزلة ثقيلة في مراحل الكِبَرِ وفَقْدُ الأحبة بعد التقاعد، وفي جميع المراحل يتوَزَّعُ كليا بين (ضروريات) الصوت الطبيعي الغريزي، وبين (كماليات) الصخب الحضاري المتصاعد، لتساهم النظريات في إبعاده عن روحه ورَبْطِهِ التام بجسده.
ويزيدُ ابتعاد الإنسان عن معاني الفضيلة والأخلاقِ اتساعًا لينتبهَ أخيرًا إلى أن ما أسس لـه من أفكار ونظريات قد بدأ يهدد حياته، وملأها بالصخب الذي يشتكي منه إنسان اليوم كما اشتكى منه إنسان الماضي، و من الطريف أن نجد حفريات أثرية تعود إلى خمسة آلاف سنة مضت، وفي إحدى الحضارات البشرية العريقة جنوبَ العراق (سومر وبابل)، تتحدث عن ذلك الإنسان الذي أزعجته المدنية بصخبها وضجيجها لما فَسَدَتْ أخلاقُه، وتسلطت عليه الآلهةُ بكارثةِ الطوفان والقحط والأمراض لإفناء البشر الذين أقلقوها بضوضائهم وصخبهم.
وفي الوسط الصاخب تستمر مظاهر الفساد الإداري في صور وأشكال كثيرة، ومن ذلك استمرار ظاهرة الواسطة، وهي تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، كأن يعمل المدير على توظيف شخص غير كفء لمنصب هام بسبب قرابته للمدير أو بسبب توسط شخص عزيز على المدير، والواسطة أيضاً تكون في تسهيل معاملة على حساب معاملات الآخرين، أو الحصول على خدمة قد لا يستحقها الشخص الحاصل عليها.
ومن مظاهر تفشي الفساد الإداري استمرار الروتين ووأد كل محاولة للتطوير والتغيير، لأن التطوير أو التغيير قد يفسد أوضاعاً يستفيد منها أشخاص لهم نفوذهم في المؤسسات، ومن مصلحتهم بقاء الحال على ما هو عليه، ليستفيدوا بغير حق من التسهيلات التي توفرها لهم المؤسسة، ومثال ذلك على أرض الواقع، توفير سيارة لكل مدير ورئيس قسم في إحدى المؤسسات الحكومية، والمفروض أن توفر السيارة لبعض الموظفين الذين يقومون ببعض المهمات خارج المؤسسة فيستحقون سيارة خاصة لإتمام مهماتهم، لكن ما حاجة المدير ورئيس القسم للسيارة؟! هل لتفقد حسن سير الأعمال؟!
ومن مظاهرها أيضاً انعدام الرضى بين الموظفين وتدني نسبة الإنتاجية مما يؤثر بشكل مباشر على اقتصاد البلد، ولطالما سمعنا عن الإنتاجية في دول مثل اليابان، إذ تعد إنتاجيتهم بالساعات يومياً، بينما إنتاجية العامل والموظف في بلداننا لا تتعدى الساعة تزيد قليلاً أو تنقص، وتدني الأداء الإنتاجي أسبابه كثيرة لكنها تكاد تتركز على غياب الأخلاق وعدم تطوير الأداء الإداري.
وللفساد أشكال أخرى كوجود صراع بين أصحاب المناصب، وهو نوع من الصراع يجبر أطرافه على استخدام كافة الوسائل الأخلاقية وغير الأخلاقية لتحطيم الطرف الآخر أو تغييبه وتحييده، وينتهي الصراع عادة بتنازل أحد الأطراف وتقديم استقالته، أو ينسحب من المواجهة ويرضى أن يؤدي ما عليه من مسؤوليات دون التدخل في أي شيء قد يمس مصلحة المؤسسة العامة، وغير ذلك كثير.
فلا مفر أخيرا أن نعود مجددا لنؤكد أن الأزمة هي أزمة أخلاق قبل كل شيء، وأن مَنشَأَ الإصلاح هو التربية على القيم لا مخططاتُ التنمية وبرامج حسن التدبير، وإلا فإن برامج الإصلاح المؤقتة والنظريات الظنية لن تجدي نفعا إن لم نبادر بإصلاح الإنسان، فالمعاناة التي يعاني منها الإنسانُ اليوم تفوق قدرات أي إصلاح، لأن مناطَ الأشياء في استشعار معاني الحياة، وهي الميزة التي فقدها الإنسان في خضم ترسانة القوانين والبرامج التنموية التي لا تضع الجانب الإنساني في اعتبارها.
إن إعادة الاعتبار للإنسان تظل المفتاح الحقيقي لأي إصلاح منشود