الأصل أن خفض الأسعار يصب في مصلحة المستهلك، ولكن من الخطأ الشائع توهم صحة ذلك في كل زمان ومكان. هو من مصلحة المستهلك إذا أخرجه التنافس، ولكن قد يكون الباعث على تخفيض الأسعار ليس التنافس وإنما استراتيجية تسعى إلى مزيد هيمنة على السوق، وغالبا ما تبدأ بأسعار مخفضة، وتنتهي بأسعار أعلى. والشرح التالي يوضح ما أقصد.

قبل أسابيع نقلت إلينا وسائل الإعلام عن اجتماع وزير التجارة الدكتور يماني مع مسؤولي شركات ألبان سعودية، على إثر إعلانها عن نيتها لرفع أسعار منتجاتها بنحو 20%. وحسب ما يبدو لي، لم يظهر للناس رأي واضح للوزارة حيال مسعى تلك الشركات، ورآه كثيرون موقفا رخوا من الوزارة، مقارنة بموقف يرونه مغايرا تم اتخاذه قبل حين، حينما سعى لإيقاف حرب تخفيض الأسعار بين شركات الألبان.
لست في هذا المقال بهدف طرح رأي مع أو ضد الوزارة أو شركات الألبان، ولكن التنبيه على خطأ سمعته كثيرا وهو أن السعي لإيقاف حرب تخفيضات الأسعار إنما يصب لمصلحة التاجر وليس المستهلك في كل الأحوال. وما أكثر ما يساء فهم وتفسير سلوكيات اقتصادية.
هناك ما يسمى البيع بأقل من سعر التكلفة، ويشمل سعر التكلفة تحقيق عائد على رأس المال مماثل أو مقارب للعائد المتوقع تحقيقه من رأس المال لو استثمر في ودائع بنكية ونحوها. بمعنى آخر: سعر التكلفة يشمل تحقيق أرباح عادية بالمعنى العرفي.
إذا وجدت شركة أو شركات قليلة كبيرة تهيمن على حصة كبيرة من الإنتاج، فإن هناك حافزا قويا لدى هذه الشركة )أو هذه الشركات( في أن تسعى لتحقيق مزيد هيمنة ومن ثم أرباح، ومن وسائلها للوصول إلى هذا الهدف أن تلجأ إلى سياسة إغراق السوق بما يؤدي إلى خسارة منتجين آخرين وخروجهم من السوق، وحينها يصفو السوق للشركة أو الشركات المتواطئة، فتتحكم بالأسعار أو الكميات. وسدا للطريق، على الحكومة منع هذه الشركات من البيع بسعر أقل من سعر التكلفة.
هل حرب الأسعار التي دارت بين شركات الألبان قبل زمن هو من قبيل المنافسة الشريفة أم من قبيل إغراق السوق بالتواطؤ بين الشركات الكبرى بغرض إخراج المنتجين الصغار من السوق؟ ليست لدي معلومات موثقة أبني وأفتي عليها، ومن الواجب توخي الدقة بدلا من التسرع بالاتهام.
وأختم بذكر قصة تواطؤ مشهورة، لكن برفع الأسعار وليس خفضها.
تآمر مديري شركات أدوات كهربائية أمريكية كبرى مثل جنرال إلكتريك ووستنغهاوس، مطلع الستينات من القرن الميلادي الماضي، على رفع الأسعار السائدة، وقاموا بتعمية خطواتهم بأعمال تشبه أعمال الجاسوسية، حيث الالتقاء سرا في أكواخ بعيدة، واستخدام الهواتف العمومية. حكم على هذه الشركات بدفع تعويضات للمستهلكين المتضررين من رفع الأسعار، خلاف أحكام أخرى ذات طابع جنائي ضد المتورطين.