أولوية التطوير في الجسم التعليمي


بقلم: د. حامد عمار


لقد آن الأوان للتخلي عن الحسرات والشكاوي من اللبن المسكوب في قطاع التعليم‏,‏ حتي أصبح ساحة للولولة والصراخ وشق الجيوب علي ما انتهت اليه أوضاعه كما وكيفا‏.


‏ كذلك لم يعد مجديا إجراء المقارنات مع دول أخري فيما جرت عليه كثير من البحوث والتقارير بما يدل علي التدني والتباطؤ في مؤشرات نموه‏,‏ رغم ما يجري من سياسات ومشروعات مبشرة فيما تزعم بتحسين أحواله علي مدي الأفق الزمني القريب أو البعيد‏.‏

لقد ملأت الكتابات والمقالات ـ ومن بينها كتاباتي ـ أسفارا ومجلدات تعكس مشاعر الإحباط والفجوة المتزايدة بين آمال الخطاب وآلام الواقع‏.‏ وهذا مع بيان مظاهر الفشل والفساد والخداع والانحراف عن تقدير الأولويات‏,‏ وإهدار الوقت‏,‏ واللجاجة فيما يتصل بحق التعليم وشروط تحقيقه‏.‏ ولا تزال دعاوي ومبررات عجز الدولة عن الوفاء بالموارد الضرورية والأساسية في إقالته من عثراته تتردد دون انقطاع في الخطاب الرسمي‏,‏ وتبرير التدهور الواقع مقترنا بصيحات عديمة الصدي في الاستغاثة بالمشاركة المجتمعية والمجتمع المدني‏.‏ وبلغ الأمر إلي حد إلقاء كثير من مشكلات قطاعات أخري مجتمعية واقتصادية وثقافية علي كاهل التعليم وخيبته في أداءاته ونواتجه البشرية‏.‏

وتكاثرت المفاهيم والمفاتيح لإنقاذ التعليم العام والجامعي من نصائح البنكين‏,‏ ودخلت مصطلحات رطانة لغوية يرددها المسئولون ونرددها نحن معهم دون تأمل أو تدبر‏.‏ منها كلمات الاستراتيجي‏,‏ والشفافية‏,‏ والتنافسية‏(‏ مع من؟‏),‏ والتمكين‏(‏ بماذا؟‏),‏ والجودة والمعايير والاعتماد‏,‏ والمدارس الذكية‏,‏ والمدارس النشيطة والفعالة‏,‏ والجامعة الأهلية الحكومية‏(‏ الأهلومية‏)‏ والجامعات الأجنبية والكليات المتميزة ومواءمة سوق العمل‏,‏ ومجالس الأمناء‏,‏ واختبارات القدرات النوعية‏,‏ والتقويم التراكمي‏,‏ والثانوية العامة المنتهية‏,‏ والشراكة مع القطاع الخاص‏,‏ وهوس المشروعات التكنولوجية والمعلوماتية‏,‏ والتطلع للظهور في قوائم المؤسسات الدولية التعليمية‏(‏ مع أمريكا وفنلندا والسويد مثلا‏).‏ إلي غير ذلك مما أزحمت به نبوءات التطوير‏.

ولابد من أن أقرر هنا أن الكثير من هذه المفاهيم له قيمته وأهميته في مسيرة المنظومات التعليمية‏,‏ لكنني أزعم أن بعضها قد يرتبط بفهم وتطوير واقعنا‏,‏ لكن معظمها لامحل له من الإعراب في السياق الاجتماعي الثقافي الاقتصادي لنظام تعليمنا‏,‏ كما أن كثيرا منها يقع في مؤسسات خارج صلب الجسم التعليمي المصري‏.‏ وتظل تلك الإجراءات الإصلاحية قابعة في أهدافها الذاتية خارج السياق العام في حركة الجسم التعليمي دون تأثير يذكر فيها‏.‏ وقد تكون لها آثار سلبية أو تبدو مبهرة في صورتها التجميلية والحداثية‏.‏

والأهم منها مفاهيم ومنطلقات فكرية تنطلق أولا من ضرورة الوعي بواقعنا ذاته‏,‏ ومن حيث هو بإشكالياته التاريخية المتراكمة‏.‏ وهذا يقتضي إعداد المؤشرات المناسبة لتقييم ما أنجزناه‏,‏ وما تعثرنا فيه علي طريق التقدم‏,‏ أو لما أصابنا من نكوص أو من جمود في حركتنا إلي الامام‏.‏ وهو ما أشخصه بالتناقضين من المبالغة في تقدير الذات أو التشدد في جلد الذات‏.‏ وكلاهما لا يحل ولا يربط في تصحيح مسيرتنا التعليمية‏.‏

وإنما الموقف الإيجابي يتمثل في الثقة الموضوعية بالنفس وبإدارة التوجه نحو التنافس مع الذات تقدما إلي الأمام‏.‏ وهذا يعني التبصر بتقدير‏:‏ أين كنا وكيف أصبحنا في مسارنا من خلال تقييم واقعنا بكل صراحة وأمانة وموضوعية؟ ويتم هذا التقييم في ضوء خطة مرنة من عام الي عام أو خلال كل سنتين أو مع نهاية كل مرحلة خطة‏,‏ أو مع نهاية كل وزير‏.‏



ومن الأساليب التقويمية الفنية والإحصائية في هذا الصدد ما يعرف بالمرصد التعليمي تشبها بمرصد الأحوال الجوية‏.‏ وهو الذي يرصد أحوال أجوائنا الداخلية‏,‏ لا مقارنة بأحوال السند والهند‏(‏ وبلاد تركب الأفيال‏)‏ كما يقول المثل‏,‏ أو بأحوال الولايات المتحدة وفنلندا والنرويج‏.‏

وأحسب أن هذا التوجه في التقويم يتمثل في محاولة لما يجري من تكوين مرصد للأحوال التعليمية في أحد مشروعات مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع مركز المعلومات واتخاذ القرار بمجلس الوزراء‏.‏ ومع ما تسفر عنه نتائج مثل هذا التقويم يجري التنافس مع الذات في الانطلاق نحو المستقبل عي مدي فترات زمنية متعاقبة في ضوء ما يمكن أن يتاح من موارد وإمكانات‏,‏ مع الاستفادة بالخبرات الأجنبية الملائمة‏,‏ متفادين جلد الذات والاستمرار في نقد التعليم‏(‏ عمال علي بطال‏).‏

والمشكلة هنا أن قدرا كبيرا مما سمي بمشروعات الإصلاح التربوي قد جري خارج جسم التعليم الحكومي‏,‏ ولم يمس ما يمكن أن يحتاجه من دعم مما يصب في صلب البنية التعليمية وحركاتها ومدخلاتها علي أمل أنها ستؤثر في صلابة الجسم‏,‏ واستواء مسيرته في التقدم‏,‏ لكننا نجد أن عائدها ضعيف أو معدوم الدافع‏,‏ ولهذا سوف نتابع في مقال تال وبوجه خاص بتقديم بعض الاقتراحات والإجراءات التي نعتقد أنها سوف تحفز الجسم التعليمي‏,‏ وتمتد فاعليتها إلي بقية أعضائه‏,‏ باعتبارها مدخلات وعمليات تنفذ إلي أعماقه وتنشط حيويته فيما يعرف في العلوم الاجتماعية بمصطلح التأثير المضاعف‏Multiplyingeffect‏ الذي تنتشر آثاره وتمتد تدريجيا‏.‏ وهو شبيه بحركة إلقاء حجر في ماء النهر تتسع دوائر تموجاته من دائرة صغيرة الي دوائر أكبر فأكبر حتي تندمج في حركة الأمواج كلها‏.‏

الأهرام-9 يونيو 2010م