نظرة إلى سوق العمالة السعودية
تتميز تنمية الموارد البشرية فى أى دولة بأنها سلسلة من العمليات المتكاملة والمتداخلة بدءا من الأسرة ثم مراحل التعليم والتدريب المختلفة ، وتنتهى بالخبرة المكتسبة من أداء الأعمال المنوطة بالفرد . ولهذا فإن إيجاد حلول فعالة لمشاكل سوق العمل يكمن فى تبنى سياسات متصلة ومرتبطة بجميع مراحل إعداد الفرد للعمل ورفع مستوى مهاراته لزيادة الإنتاجية الوطنية وقدرات المنافسة .. لسوق العمل فى السعودية بعد دولى من حيث قدرتها على جذب العمالة من جميع أسواق العمل فى العالم ، مما يعنى وجود عرض لا نهائى من العمالة وبالتالى انخفاض معدلات الأجور مقارنة بحالة تقييد سوق العمل .

ونتيجة لتداخل وتكامل عملية إعداد المواطن للعمل ، فإن عبء هذه العملية لا يقع على الدولة فقط أو القطاع الخاص ، بل يمتد ليشمل المواطن نفسه وأسرته . فمثلا لن تكفى جهود الدولة فى إيجاد فرص عمل دون مساهمة من القطاع الخاص ، ولن تكفى جهود القطاعين العام والخاص إذا لم يساهم الفرد فى تنمية قدراته واختيار مجالات تعليم وتدريب ملائمة لاحتياجات المجتمع ، وإذا لم تساهم الأسر فى إعداد أبنائها وتغيير نظرتهم إلى العمل بكل أنواعه وتحفيز شعورهم بالرغبة فى الإنجاز والافتخار بالإنتاج وتحقيق دخل من عمل مفيد واقتصادى ، وتنمية الإحساس بقيم Ethic وقيمة Value العمل والوقت .

ولايمكن لأحد إغفال الدور الكبير الذى قامت به السعودية فى تنمية مواردها البشرية ، حيث اعتبرت خطط التنمية أن إيجاد فرص عمل للقوى العاملة السعودية من أهم ركائزها الرئيسية ، فاستهدفت تكوين المواطن العامل والمنتج بتوفير الروافد التى توصله لهذه المرحلة ، وتوفير مصادر الرزق له ، وتحديد مكافأته على أساس عمله ، مع العمل على تحفيز القطاع الخاص لاتخاذ وسائل فعالة فى توفير فرص العمل سواء عن طريق إيجاد وظائف جديدة أو إحلال العمالة الوطنية محل الوافدة ، وما انجز حتى الآن فى قطاعات التعليم والتدريب غير خاف على أحد ، وشواهده ما زالت قائمة . إلا أن الملاحظ فى الآونة الأخيرة وبصفة خاصة بعد إنتهاء فترة طفرة عائدات النفط تزايد أعداد طلاب العمل وطول فترة الانتظار للتعيين ، مما أدى إلى اهتمام المعنيين بقضايا التنمية بموضوع دور القطاع الخاص فى توفير فرص عمل متزايدة للمواطنين .

وأصبح الحديث عن مساهمة القطاع الخاص فى إيجاد حلول لمشاكل سوق العمل من القضايا المهمة التى لا تكاد وسيلة إعلامية تخلو منها ، وسارعت منشآت القطاع الخاص بتخصيص جزء من تقاريرها السنوية لتعداد إنجازاتها فى مجال توظيف المواطنين ، وحددت فى إعلاناتها عن طلب عمال وموظفين أن الأفضلية للمواطنين السعوديين .. على الرغم من كل ذلك لم يقتنع غالبية الأفراد بأن القطاع الخاص قام بدوره ، وأحيانا يشكك البعض فى جدية ومصداقية بعض منشآت القطاع الخاص ، فيما يتعلق بفرص العمل . وبلغ الأمر أن طالب البعض بربط الحوافز والإعانات التى تقدمها الدولة للقطاع الخاص بمستوى إنجازه فى توظيف المواطنين ، وإيثار للسلامة وعدم الرغبة فى الخوض فى مجادلة مع الأفراد الباحثين عن عمل والكاتمين لغيظهم من سلوك القطاع الخاص فى مجال التوظيف اتجه معظم المسؤولين فى منشآت القطاع الخاص ورجال الأعمال إلى تفضيل الرد السلبى بالصمت ، أو بذر الرماد فى العيون من خلال التصريح بأنهم يخططون لزيادة فرص العمل للمواطنين ، وأنهم سوف يزيدون من اهتمامهم بهذا الأمر وأنهم سوف .. وسوف .. وحاولت قلة من رجال الأعمال الدخول فى حديث صريح من خلال الصحافة مع الباحثين عن عمل وتطرقوا إلى إمكانياتهم فى التوظيف ومدى التزام وجدية كثير من المتقدمين إلى الوظائف ومستوى إنتاجيتهم مقارنة بما يطلبونه من أجور ، ولم يشفع لرجال الأعمال هؤلاء تأكيداتهم بإخلاصهم فى مجال التوظيف فى السابق وتأكيدهم بالقيام بأكبر دور فى التوظيف مستقبلا ، فوجهت لهم الاتهامات وشحنات الغضب واللوم .

تؤكد أولويات التنمية تعاظم دور القطاع الخاص فى التوظيف وليس هناك أدنى شك فى ضرورة أن يترجم القطاع الخاص اتفاقه وحماسه مع أهداف خطط التنمية باستيعاب أكبر قدر ممكن من طلاب العمل . ولكن ليس هناك ما يمنع الاختلاف فى أساليب تحقيق هذه الأهداف ، حيث أن العديد من الأساليب التى يطرحها بعض المتحمسين لقضايا طلاب العمل تركز على مسؤولية ودور القطاعين العام والخاص وتهمل دور الأطراف الأخرى فى تطوير إمكانيات الفرد لإيجاد فرص عمل ملائمة ومجزية ، كما أن بعض الأساليب المقدمة تتناسى الهدف الأساسى من منشآت القطاع الخاص وأن تحقيقها للأرباح يخدم قضايا الاقتصاد الوطنى من خلال تنويع القاعدة الاقتصادية ، ورفع القيمة المضافة ، وزيادة الاستثمارات المحلية وبالتالى فرص العمل. وأن تقليص التكاليف وسيلة فعالة لزيادة الأرباح الضرورية للنمو ، ويفضل العديد من المهتمين والكتاب توضيح المقصود بالقطاع الخاص والذى يشمل أنشطة تجارية ، خدمية ، صناعية ، وغيرها بحيث أن كل نشاط من هذه الأنشطة له إمكانيات كمية ونوعية فى استيعاب العمالة وإيجاد فرص عمل جديدة مقارنة بالأنشطة الأخرى .

فنجد مثلا أن قطاع التجارة أو الخدمات يتطلب مهارات كتابية وإدارية وما شابهها وبأعداد كبيرة بالإضافة إلى عمالة غير ماهرة أو شبه ماهرة ، بينما يتطلب قطاع الصناعة خليطا آخر من المهارات بصورة تميزه عن بقية القطاعات .. وعلى الرغم من أن القطاع الصناعى هو أحدث القطاعات مقارنة بغيره ، فهو أكثر القطاعات قدرة على استيعاب العمالة وإيجاد مزيدا من فرص العمل فى المستقبل . وتدل البيانات أن عدد العمالة فى القطاع الصناعى السعودى عام 1991 بلغ 407 ألاف عامل منهم 104.200 سعودى ، وأن نسبة العمالة فى القطاع الصناعى إلى إجمالى العمالة فى السعودية لا تزيد على 7 فى المائة . ولهذا فإن هناك مجالا أوسع لاستيعاب مزيدا من العمالة الوطنية فى القطاع الصناعى على الرغم من اعتماد الصناعات السعودية على تقنيات متقدمة مكثفة لعنصر رأس المال أكثر من عنصر العمل . ويرجع سبب انخفاض نسبة العمالة السعودية فى هذا القطاع (25.6 فى المائة) إلى تفضيلات طلاب العمل والى عدم توافر المهارات اللازمة فيهم . فإذا انتقلنا من الجانب الكمى إلى النوعى ، فإن نوعية العمالة التى يتطلبها القطاع الصناعى تختلف عن العمالة التى تتطلبها القطاعات الأخرى ، حيث يحتاج القطاع الصناعى إلى مهارات متقدمة إدرايا ومهنيا وتقنيا ، بالإضافة إلى العمالة شبه ماهرة ، مما يجعل مستقبل التوظيف فى الصناعة يعتمد على جدية طلاب العمل فى تغيير نوعية ما يعرضونه من مهارات لتتلاءم مع متطلبات الاقتصاد الصناعى .

وإذا كان الأفراد يتوقعون أن يزيد القطاع الخاص من فرص العمل ، فإن القطاع الخاص يتوقع من الأفراد المتقدمين له توافر شروط معينة ، منها ارتفاع الإنتاجية إلى مستوى تنافسى ، الالتزام بمتطلبات العمل ، الاستعداد للعمل فى أى منطقة خارج المدن الكبرى ، الاقتناع بالعمل اليدوى والمهنى ، الحرص على مسؤوليات ومتطلبات العمل أكثر من الحرص على وجاهة المنصب ، العمل لساعات أطول على فترتين ، وأيام أكثر " ستة أيام فى الأسبوع " ، وإجازة سنوية أقل ، مع القبول بمبدأ ربط الإنتاجية بالأجر أو الراتب وبالتالى القبول بتفاوت الرواتب والأجور حتى لو تساوت المؤهلات العلمية ، وأخيرا وليس أخر ضمان العائد على ما تتحمله المنشأة للاستثمار فى التدريب إما من خلال أن يتحمل الفرد جزءا كبيراً من تكلفة تدريبه " إذا اقتنع الفرد بأهمية التدريب فى زيادة قوته التفاوضية فى سوق العمل ، أو من خلال الالتزام القاطع بالعمل لفترة طويلة تمكن المنشأة من استرداد تكاليف التدريب .
ومهما كانت أسباب وحجج القطاع الخاص ، فإن الغالبية العظمى تؤمن بأهمية قيام هذا القطاع بتوفير فرص العمل لأبنائها حاليا ومستقبلا ، وفى الوقت نفسه يتفق الجميع على ضرورة الحفاظ على سلامة الاقتصاد الوطنى ومنجزاته ، ولهذا من المهم أن يضمن الجميع سلامة أداء القطاع الخاص واستمراره فى تحقيق الأرباح التى تخدم الاقتصاد الوطنى ، وبالتالى عدم اتخاذ أى إجراء يؤدى إلى تخفيض الإيرادات أو رفع تكاليف الإنتاج . فارتفاع تكاليف الإنتاج يعنى تدنى الأرباح وارتفاع سعر المنتجات وانخفاض الطلب عليها ، وفقدان القدرة التنافسية فى أسواق التصدير ، وزيادة الأموال المخصصة لتمويل واردات يمكن إنتاجها محليا.