هناك مقولة مصرية شائعة تصف من يفعل شيئاً – لا يتناسب مع محيطه – كمن يؤذن في مالطا؛ بمعنى أنه يفعل شيئاً غريباً، لا ينسجم مع من يحيطه من البشر، ومع ما تحيطه من الظروف، فتكون النتيجة ألا يلتفت إليه أحد. مثله كمثل الذي يؤذن في مالطا – جزيرة في البحر المتوسط – فلا يُفهم أذانه، لأنه ببساطة غير معروف لدى البشر هناك.

وقد تواردت تلك المقولة على فكري وخاطري، حينما كنت أقود سيارتي يوماً – في شوارع القاهرة القذرة جداً والمكتظة جداً – فإذا بي أنظر إلى لافتات عن يميني وشمالي، تحمل شعار "القراءة للجميع". لفت انتباهي شيوع مثل هذه اللافتات بدرجة ملحوظة؛ وأخذت أتأملها في وسط الشوارع الخانقة التي "خنقت" كل من يمشي عليها، سواءً ماشياً أو راكباً، فقيراً أو غنياً، ذكراً أو أنثى، إنساناً أو حيواناً. أخذت أتأمل تلك اللافتات في وسط ذلك الشعب المكلوم المكتوم الذي تحولت حياته إلى صراع ٍ يومي، منذ لحظة نهوضه من نومه إلى لحظة خلوده إلى نومه.... بعد يومٍ مُهلكٍ مرير.
بصراحة اندهشت من تلك اللافتات التي انتشرت في وسط ذلك الضنك المُستشري، وسألت نفسي: هل انتهت كل مشاكلنا وأزماتنا لكي نرفع تلك اللافتات؟ هل باتت بلادنا على قدرٍ من الرفاهة التي تسمح بنشر تلك اللافتات؟ وهل سيقرئها الموظف الذي بات عاجزاً عن تدبير قوت عياله؟ أم سيقرئها الشاب الذي عجز عن الإتيان بأي مكان – ولو حجرة – لكي يتزوج فيها ويعف نفسه؟ أم ستقرئها الأرملة أو المطلقة الكادحة التي تهرول كل يوم بين بيتها وبين عملها، والتي "يُفرم" جسدها يومياً في أتوبيسات النقل العام، سواءً في لهيب الصيف أو برد الشتاء، لكي توفر لقمة عيش لفلذات أكبادها؟ أم سيقرئها الطفل الذي يرتاد معهد الأورام بين الحين والآخر لكي يتلقى جلسة العلاج؟
بصراحة لقد استفزتني تلك اللافتات، بل "خنقتني" كما خنقتني شوارع مصر المحروسة التي لم تعد محروسة. وإذا كان هذا الحال قد وصل بي إلى هذا الحد – وأنا مستقلة لسيارتي – فما بال الذي تُنتهك آدميته يومياً في المواصلات العامة؟
إن لكل مقامٍ مقالا؛ وما تواجهه بلادنا في الوقت الحاضر من تدهور ملحوظ على جميع المستويات – ما عدا المستوى الأمني السياسي طبعاً – لا يسمح أبداً بعرض تلك المقولات المستفزة. وكيف لا تكون مستفزة، ونصف الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر؟ وكيف لا تكون مستفزة، وأمراض السرطان تنهش المصريين وتحصدهم كالجراد، لا تُفرق بين صغير وكبير؟ وكيف لا تكون مستفزة، ورواتب الموظفين في ثبات ٍ مستمر بينما أسعار الطعام والملبس والسكن والماء والكهرباء في صعودٍ مستمر؟ وكيف لا تكون مستفزة، والسجون مزدحمة بأعداد غفيرة من البشر الذين لم يُثبت عليهم أي تهمة، والذين يعاملون معاملةً قاسية بل إجرامية، الأمر الذي جعل مصر من أكثر الدول انتهاكاً لحقوق الإنسان؟
إنه هناك من القرى المصرية التي لم يصلها الماء حتى هذه اللحظة؛ وإنه هناك من القرى المصرية ما ُيخلط فيها الماء النقي بماء الصرف الصحي؛ وإنه هناك من المصريين من يعيش في "عشش" قد تذروها الرياح في أي لحظة فيصيرون في العراء؛ بل إنه هناك من المصريات من يفترشن الشوارع ليلاً – بسبب الفقر – فيتعرضن لشتى صنوف الابتزاز.
هل نُسيَت كل هذه القضايا التي تمس وجود الإنسان وكرامته، ليتم الإعلان عن أهمية القراءة؟ بالطبع لا يستطيع أحد نكران أهمية القراءة، ولكن توفير أساسيات الحياة الكريمة الطيبة التي تليق بكرامة الإنسان لها الأولوية العظمى في مثل هذه الظروف المأساوية التي تعيشها بلادنا. فقبل أن أطالب المواطن المصري بالقراءة، علي أن أسد جوعه وأعالج مرضه أولاً، وأن أرفع شعار "الكرامة للجميع" قبل رفع شعار "القراءة للجميع"...إما سأكون كمن يؤذن في مالطا.