مقدمة
تستهدف هذه الورقة التعريف بمفهوم الثقافة و تقييم مدى مواكبة الثقافة العربية لمتطلبات التميّز فى الادارة و بالتالى كيف نحقق هذه المواكبة .
تبدأ الورقة بتأصيل المفاهيم و ايضاح مصادر الثقافة و الدور الذى تلعبه الاستعارة فى تكوين الثقافات ، و ينتهى هذا الجزء بتحديد سريع للعناصر التى تكوّن الثقافة .
تحاول الورقة بعد ذلك بلورة و ابراز العلاقة بين الثقافة و الادارة و تثبت حتمية هذه العلاقة ، بمعنى أن الادارة المتميزة تحتاج إلى ثقافة مواتية نسميها ثقافة التميز .
هل الثقافة العربية ثقافة تميز ؟ يحاول الجزء التالى من الورقة الاجابة على السؤال ، و يستعرض عدداً غير قليل من مظاهر عدم مواتاة الثقافة العربية للتميز .
نختتم الورقة بتناول مداخل التطوير فى الثقافة العربية ، سواء كانت هذه المداخل مباشرة أو غير مباشرة و ذلك من أجل دعم التميز فى الادارة .


2 – ما الثقافة ؟ و ما عناصرها ؟
2/1 – تعريف مبدئى
الثقافة Culture هى الجزء من المحيط بالانسان الذى هو من صنع الانســــان و يشمل الحصيلة الاجمالية لمعارفه و معتقداته و فنونه و أخــــــــلاقياته و تقـــــاليـــده و عــــــاداته و قيمه ، و أية قدرات و عادات أخرى يكتسبها الانسان كعضو فى المجتمع . الثقافة هى طريقة الحياة لمجموعة من البشر ، و هى التى تميزهم عن غيرهم .
مفهوم الثقافة إذن مفهوم أنثروبولوجى بمعنى أن كل مجموعة من البشر لهم ثقافة تتمثل فى إجمالى الارث الاجتماعى للانسان فى هذه المجموعة من البشر . الثقافة إذن توجد فى القاهرة و توجد فى طهران و توجد فى لندن و توجد فى استراليا بين سكانها الأصليين Aborigines . كل شعب له ثقافة تميزه عن الشعوب الأخرى ، أى تجعله مختلفاً عن الشعوب الأخرى ، و إن تشابه معها فى بعض الوجوه فالثقافات تبنى من بعضها البعض .
2/2 – هل الاستعارة الثقافية تبنى الثقافات ؟
يمكن النظر إلى الثقافة باعتبارها تجميعاً لأفضل الحلول التى تعارف عليها المجتمع لحل مشكلاته . إن الثقافة هى وسيلة الانسان فى محاولته التكيف مع مكونات البيئة المحيطة به من بيولوجية أو سيكولوجية أو تاريخية .
من أين استمد الناس هذه الحلول ؟ بعض هذه الحلول جاء بطريق الصدفة البحتة ، كما أن بعضها جاء نتيجة للاختراع ، أما الباقى ، و هو الغالبية العظمى جاء نتيجة للاستعارة الثقافية من المجتمعات الأخرى أى من الثقافات الأخرى . حيث أنه على الرغم من أن كل مجتمع له عدد من المواقف الفريدة التى ينفرد بها ، إلا أن أغلب المشكلات التى تواجه المجتمعات متشابهة فى طبيعتها ، مع تغير فى الظروف بالنسبة لكل بيئة أو ثقافة .
و لكى نفهم الثقافة يلزم فهم الطريقة التى نستعير بها من الثقافات الأخرى ، فتلك الاستعارة لا هى عشوائية و لا هى كاملة . و إنما هى جهد منظم لنقل تلك الأنمـــــــاط أو الأساليب الثقافية التى يقدر أنها مفيدة فى حل مشكلات مجتمع معين . و ما يستعيره المجتمع يكيفه حسب ظروفه ، و بمجرد اتمام التكيف يصبح جزءاً من الإرث الثقـافى . و بناء عليه فكل من الثقافات فريد فى ذاته ، و لكنه ناتج جزئياً من الاستعارة من الثقافات الأخرى .






فبصرف النظر عن مصدر الحل الذى نستخدمه لحل مشكلاتنا فإنه بمجرد أن يتم قبول هذا الحل بشكل عام فى المجتمع يصبح جزءاً من التراث الثقافى ، و يتم تـــوريثه و تعليمه للأجيال المتعاقبة . هذا الارث الثقافى هو ما يميز الانسان عن الحيوانات ، فالبشر يتوارثون حلول المشكلات و يعملون على تطويرها و تنميتها .
خلاصة القول أن المصرى رغم كونه قد استعار الكثير من أنماط ثقافته من الثقافات الأخرى فقد جمعها معاً بشكل فريد يجعلها ثقافة مصرية و ليســــــت هــــندية أو أمريكية ، الخ .
هذه الخاصية فى الثقافات التشابه مع الاختلاف فى نفس الوقت – لها أهمية كبيرة فى كسب القدرة على فهم و تقييم الثقافات و التعامل فى ظلها .
إن خاصية التشابه مع الاختلاف أحياناً ما تحدث ارتباكاً فى ذهن المدير إذ يتخيل أن كل الثقافات متشابهة ، و بالتالى فالحلول الناجحة فى أمريكا مثلاً يجب أن تنجح فى السعودية أو فى مصر . و هذا خطأ فادح . فقد يتحدث الناس حتى نفس اللغة و لكن ثقافاتهم تكون مختلفة ، و بالتالى التعامل الناجح معهم يتطلب مسالك مختلفة . و قد يعيش الناس فى مصر الواحدة و لكن أهل الصعيد لهم ثقافتهم التى تختلف فى وجوه عن ثقافة أهل القاهرة . هناك تشابه و هناك اختلاف .
2/3 – ما عناصر الثقافة ؟
تشمل الثقافة كل جوانب الحياة من صنع الانسان ، و يمكن تحديد عناصرها الرئيسية فى الآتى :
• الثقافة المادية
- التكنولوجيا ( الطرق ، و الكهرباء ، و نظم البناء ، و نظم الاتصال ، ...
الخ )
- الاقتصاد ( طرق الانتاج و الاستهلاك و التوزيع و التبادل ... الخ )
• المؤسسات و الهياكل الاجتماعية
- التنظيم الاجتماعى فى كافة الأشكال و المســـتويات ( الأســـــرة ،
- الحكومة ، النادى ... الخ )
- نظم التعليم و نظم التربية و التدريب .
- القوانين السارية .
- العادات و التقاليد و القيم السائدة ( نظم الزواج ، أنماط التعامل بين
- الصغار و الكبار .. الخ )
- الموروثات الاجتماعية .
• الانسان و الكون .
- نظم المعتقدات .
• الجوانب الفنية
- الفنون .
- الفولكلور .
- الموسيقى و الدراما .
• اللغة .








3 – ما علاقة الثقافة بالإدارة ؟
3/1 – طريقتك فى الادارة بنت ثقافتك
يدهش البعض لحديثى عن الثقافة ، و كأنه ترف أكاديمى لا يتسع وقتنا له إذ تواجهنا تحديات كبيرة و تنتظرنا مهام جليلة . و يضيف البعض " دعنا نفكر فى كيف نزيد الانتاج ، و كيف نفتح الأسواق و كيف نحقق الربح أولاً ثم نلتفت للحديث عن الثقـافة ".
و مشكلة هؤلاء أنهم لا يدركون حقيقة أن زيادة الانتاج و فتح الأسواق و تحقيق الأرباح يتوقف على حسن الادارة ، و حسن الادارة مرتبط بالثقافة . لأن " إدارتك تنبع من ثقافتك " و طريقتك فى الادارة هى بنت ثقافتك .
3/2 – فهمك للثقافة شرط لحسن الادارة
الأمر الثانى الذى يتعين الانتباه اليه هو أن المدير لا ينجح فى أى مجتمع ما لم يكن متفهماً لثقافته و قادراً على التكيف الفعال معها .
المدير عليه الاقتناع إبتداء بأهمية فهم الثقافة السائدة ، ثم يحاول فهمها ، و يحسها و يدركها و يقدّرها و يتكيف معها .
المدير أيضاً يمكن بعمله و سياساته أن يحدث التغيير التدريجى فى الثقافة و لكن هذا التغيير سيكون بطيئاً للغاية . قد يحدث و لكن ببطء شديد .
المدير إذن فى علاقته بالثقافة له دوران رئيسيان :
• دور التكيف مع الثقافة ( فى الأجل القصير ) .
• دور تطوير / تغيير الثقافة ( فى الأجل الطويل ) – و لذلك حديث آخر فى موضع لاحق .
3/3 – ثقافة التميز طريقك للتميز
يكاد يكون من المتعذر أن نحقق التميز فى الادارة ما لم تكن الثقافة السائدة هى ثقافة التميز. و ثقافة التميز تختلف بالتأكيد عن ثقافة الكسل و التواكــل و التســـــــاهل . و بالتالى فإذا أردنا تحقيق التميز فى الادارة لابد أن نراجع ثقافتنا لنتأكد من أنها مواتية لهذا التميز أو يكون لنا معها شأن آخر و على مستوى المؤسسة الواحدة لابد أيضاً لتحقيق التميز فى الادارة أن تطور ثقافة التميز بالمؤسسة ، و ستتكون تلك الثقافة من مجموعة من القيم و الأهداف و النظم التى تدعم التميز .
هل يمكن أن نحقق التميز فى الادارة فى بيئة ثقافية غير مواتية للتميز ؟ ممكن ، و لكن الحياة ستكون صعبة ، و المنغصات كثيرة ، و الجهد المطلوب خارقاً . ان التميز داخل الثقافة المواتية طبيعى و تلقائى و سهل ، و لكنه غير طبيعــــى و غير تلقــــــائى و صعب للغاية فى الثقافة غير المواتية .








4 – هل الثقافة العربية محفزة على التميز ؟
4/1 – وجوب الحذر عند التعميم
أول النصائح لأى باحث ألا يلجأ للتعميم بغير سند . و قد أوضحت فى موضع سابق أن الثقافات تتشابه و تختلف فى نفس الوقت ، كما أوضحت أنه فى داخل الشعب الواحد توجد اختلافات ثقافية يعتد بها و لا يجوز تجاهلها . فما بالنا و نحن نتحدث عن الثقافة فى مختلف الشعوب العربية . صحيح أن هناك تشابهات كثيرة و لكن هناك اختلافات أيضاً .
و بالتالى فاننا إذ نتحدث عن الثقافة العربية فاننا نتحدث عن الأنماط السائدة فى قطاعات كبيرة من المجتمع العربى ، و لا نزعم أن هذه الأنماط توجد بنسبة 100 % فى كل أجزاء المجتمع العربى .
و نحذر أيضاً من أن بعض الأنماط الظاهرة قد لا تكون شائعة بالقدر الذى يوحى به ظهورها ، فقد يكون الظهور نتيجة الاعلام و القنوات الفضائية أو نتيجة حقيقة الشذوذ عن المألوف ذاتها ، و عليه نؤكد أن بحثنا فى هذه الورقة ليس وثيقة للادانة ، و انما فقط يرصد الأنماط التى نعتقد بشيوعها فى قطاعات كبيرة من المجتمع العربى ، و نعتقد فى نفس الوقت أنها غير محفزة على التميز فى الادارة .
4/2 – أنماط ثقافية غير مواتية للتميز
نعطى فى الصفحات التالية عدداً لا بأس به من عناصر الثقافة العربية التى ان لم تكن معوقة للتقدم فهى على الأقل غير مواتية بدرجة كافية لتحقيق التميز فى الادارة . هذه الأنماط هى ما يجب العمل على مراجعته و التفكير فى تطويره ( سنتحدث عن آليات التغيير و ديناميكيته فى موضع لاحق ) .
نود أيضاً أن نلفت الانتباه الى أن الظواهر الثقافية الواردة هنا لم نقصد ترتيبها حسب الأهمية أو الخطورة ، فكلها فى تقديرنا هامة و خطيرة .
4/2/1 – غياب روح الفريق
سألوا العالم المصرى أحمد زويل عن أهم أسباب نجاحه فى الكشف العلمى الذى استحق عنه جائزة نوبل فجاء الحرص على العمل كفريق على رأس القائمة . إن غياب روح الفريق فى كثير من الاعمال العربية سبب رئيسى لمحدودية الانجاز . و لا يعنى العمل كفريق تجاهل الخصوصية الفردية أو طمس الانجاز الفردى ، و انما يبقى بروز الفرد الأكبر من خلال الفريق .
4/2/2 – غياب المؤسسية
فالتفكير العائلى ، أو بريق النجم الأوحد ، أو سيطرة الزعيم التاريخى كلها ظواهر تقلل من فرص تميز المؤسسية ، و تقلل من فرص حشد المـوارد و تعبئتــــها ، و تربط التميز بشخص ، هو فى النهاية زائل ، ناهيك عن احتمالات الميل للاعتبارات الشخصية فى السلوك الادارى على حساب الاعتبارات الموضوعية .
4/2/3 – الوالدية فى الادارة
و يرتبط بالنقطة السابقة شيوع فكرة الوالدية فى الادارة و الحكم ، بل إن بعض الحكام لا ينظرون الى أنفسهم كمسئولين اختارهم الشعب و يستطيع محاسبتهم ، و انما يفضلون النظر اليهم باعتبارهم " كبير العائلة " أو " الأب الروحى " أو " الراعــى " و هى كلها أوضاع غير مواتية للمساءلة ، و بالتالى يكون التميز فى الادارة إن حدث نتيجة للصدفة البحتة و ليس نتيجة لحسن الاختيار و آليات المساءلة .
و تنزلق هذه الممارسات إلى كثير من المواقع الوزارية أو رئاســات الشركــات و الهيئات ، و بالتالى يتحول الرئيس من طاقة تدفع للتقدم و التميز الى عقبة حقيقية فى طريق التقدم و التميز .
4/2/4 – عدم الحرص على المساءلة
و ثقافة الوالدية تتطور فى النهاية الى ثقافة عدم المساءلة ، و هل يجوز أن تحاسب أبيك ؟! و بالتالى تجد المسئول الكبير يرتكب الأخطاء و يتسبب فى الكوارث ، ثم نكتفى بعزله من الوزارة أو احالته للتقاعد دون مساءلة عن أخطائه و كوارثه . و كأن التسامح أصبح أولى من العدل . و النتيجة الطبيعية لهذا السلوك هى شيوع ثقافة عدم المساءلة بالتدريج فى مختلف المستويات . و لا نعتقد أن هذا المناخ يحض على التميز فى الادارة .
4/2/5 – تداول المراكز و تداول السلطة
يزيد من الأثر السلبى لمناخ الوالدية و عدم المساءلة ، يزيده سوءاً الميل الى التمسك بالمواقع الادارية أو السيلسية بشكل دائم دون اتاحة الفرصة لتغيير الشخــــص أو تداول السلطة .
و مهما يكن من أمر فإن التعددية فى السياسة و التداول فى الادارة و السياسة ضروريان كأرضية مبدئية للتجديد فى الفكر و التجديد فى الممارسة .. و التجديد بداية طبيعية للتميز فى الادارة .
إن تواصل الأجيال أمر محمود و مطلوب ، و لكن صراع الأجيال غير مطلوب ، بل إنه يهدد الطاقات بغير مردود ، و يقضى على فرص الابداع و ربما يبذر بذور التآمر و الانقلاب . و كل ذلك غير موات للتميز فى الادارة .
4/2/6 – اهدار الوقت
هذه سمة شائعة بدرجة كبيرة فى البلاد العربية ، و ربما كانت الطبيعة الرعـوية و الزراعية التى نشأت عليها الشعوب العربية سبباً فى التعـــــامل بشئ من التراخـــــــى أو التساهل مع الوقت فالرعاة و المزارعون لا ترتبط أعمالهم و نشـــاطاتهم بمواعــــيد و توقيتات صارمة مثل العامل الصناعى أو سائق الطائرة ، الخ . و لذلك تجد الكثيرين لا يهتمون كثيراً بدقة المواعيد ، و لا يغضبون كثيراً لتأخير الاجتماعات ، و ربما لا يتذمرون إذا أغلق الطريق لساعات بسبب مرور مسئول أو استقبال ضيف كبير .
يتطور الأمر فتصبح الجدولة الزمنية لبرامج العمل ، و المحاسبة عن مواعيد تسليم المقاولات ، و الارتباط بمدد محددة للانجاز ، يصبح كل ذلك هو الاستثناء ، و لا نعتقد أن فى ذلك مناخاً ملائماً لأى تميز .
4/2/7– غياب الاتقان
لا تؤكد الثقافة السائدة على قيمة الاتقان ، اتقان العمل بصفة عامة فى أى مجال ، و النتيجة هى القبول بالمستوى المتدنى للأداء فى كل مجال . و سأضرب بعض الأمثلة من حياتنا اليومية :
- هل شرطى المرور يتقن عمله فى تنظيم المرور و ضبط المخالفين ؟
- هل حراس المنشآت يحافظون على يقظتهم و انضباطهم طوال وردية الحراسة ؟
- هل المعلمون يؤدون واجباتهم فى كل الحصص فى كل المواد لكل التلاميذ ؟
- هل الممرضة تكون دائماً مبتسمة و خادمة للمريض كل الوقت ؟
- هل الموظف العمومى يخدم المراجعين بكل اتقان فى كل وقت ؟
إن تفشى ثقافة عدم الإتقان مسئول عن التدهور العام فى الأداء ، و لا أتصور أن هناك تميّزاً يمكن تحقيقه و نحن أصلاً لا نتقن ما نفعله .
4/2/8– السرية و التكتم بغير مبرر
نشأت المجتمعات العربية على فكرة تكتم أمور السلطات و الحفاظ على سرية الحكم و شئون الحكام . ثم تطور الأمر الى حجب المعلومات لأن العوام غير مؤهلين للتعامل الناضج مع المعلومات . ثم يتطور الأمر إلى أن وسائل الاذاعة و الصحــــــافة و التليفزيون أصبحت تتعامل مع المواطن على أنه غير مؤهل لاستقبال الأخبار السريعة و الصادقة ، فتم التزييف و التأخير و التضليل ، ثم تفشى الأمر فانتقل الى دوائر الادارة بالأجهزة الحكومية و الشركات ، و فرضت الوصاية على الناس ، النتيجة أن الناس أحيانا فقدوا الثقة بقدرتهم على التمييز أو الحكم ، ناهيك عن التميز في الأداء.
4/2/9- المستشارون للتجميل
وهذه ممارسة معتادة في كثير المواقع التنظيمية الكبيرة، فأصبح من تقاليد الكبار أن يحتفظوا حولهم بعدد كبير من المستشارين، ليس لتلقي وتنفيذ مشوراتهم، إنما فقط للتباهي بوجودهم. لقد أثبتت يعض الحكومات العربية أن الاستعانة الصحيحة بالمستشارين يمكن أن تنقل الأداء الإداري إلى مستوى عالٍ جدا من التميز، بينما تعاملت بعض الدول مع المستشارين كما لو كانوا فئة من المحتالين أو المتسولين الذين لا يؤدون عملا حقيقيا و بالتالي انشغلت الحكومات بسن القوانين للحد من المستشارين- حفاظا على المال العام!
4/2/10- انحراف العلاقة بين المواطن والسلطة
ما أقصده هنا هو أن المواطن العربي في اغلب بلادنا العربية نشأ في ثقافة تهاب الحكام وتخافهم إلى حد التقديس، فأصبح المواطن يخشى الحكومة، ثم أصبح يخشى الرؤساء من كل نوع. والنتيجة لا تميز على الإطلاق، لأن أحدا لا يحاسب أحداً . موظف الحكومة يهمل في الأداء والمواطن يخشى الموظف، ويخاف من الشكوى، والمسئول يبغى ويظلم، والمواطن يخاف ويرتعد، فيزداد الباغي ظلماً، وهكذا في حلقة مفرغة .
هذه الثقافة الاستسلامية تتناقض مع أي متطلب لتحقيق التميز .
4/2/11- ثقافة التواكل
المقصود هنا هو غياب منهجية الفكر التخطيطي في قطاعات كبيرة من العقول العربية، وبدلاً من ذلك يشبع الميل للتسبب والتواكل والاعتماد على الحظ أو تساهيل ربنا" . تسأل العامل كم من الوقت يحتاج لإصلاح هذا العطل، فيقول لك "ربنا يسهل" وتلح عليه لتحديد الوقت فيصر هو على أن "كل شئ بأيد ربنا يا أستاذ" .
يترتب على ثقافة التواكل بالتأكيد غياب الرؤية الاستراتيجية في حركة المجتمع، وغياب التخطيط أو شكليته دون مضمون حقيقي .. وضياع الأهداف أو ضبابيتها . وكل ذلك ضد التميز في الإدارة .
4/2/12- تخلف نظم التعليم
وهنا يتعين علينا الإشارة السريعة إلى نظم التعليم العربية في الغالب الأعم لا تفرز المواطن الناضج المسئول القادر على النقد والبحث والاكتشاف، ودون الدخول في تفاصيل أكثر ، إن هذا المواطن الذي لم يتعلم كما يجب سيكون عاجزاً بالتأكيد عن المشاركة الفعالة بكل طاقتة في تحقيق التميز في الاداء .
4/2/13- ضعف الاطار القانوني للعمل .
التشريعات في أغلب الدول العربية سبب رئيسي لاعاقة الاداء المتميز .
ويرتبط بذلك أيضاً عد الحرص على تطبيق القوانين في كثير من المواقع والمواقف .
4/2/14- غياب الانضباط
ثقافة التسيب تشبع في المجتمع العربي أكثر من ثقافة الانضباط والمدير إذ يعمل في هذه الثقافة غير المنضبطة يصعب عليه ضبط العمل أو العاملين، ويصعب عليه ضبط المواعيد والارتباطات، ويصعب عليه إثابة المجد ومحاسبة المهمل، بإختصار يصعب عليه تحقيق أي تميز .
4/2/15- التاخير التكنولوجي
لا شك أن قطاعات كبيرة من المجتمع العربي ما زالت بعيدة جداً عن ملاحقة ومواكبة التطورات التكنولوجية خصوصاً في أنظمة الانتاج والبحث والاتصال. وأحياناً يكون تعامل الانسان العربي مع التكنولوجيا تعاملاً مظهرياً أو طفولياً دون استفادة حقيقية من التكنولوجيا .


4/2/16- كل مدير يبدأ من أول السطر
هذه عادة عربية قديمة ، ولسوء الحظ ما زالت قائمة، فكل مسئول إذ يتولى الوظيفة نجده يبدأ من الصفر وكأن كل ما سبقه كان خطيئة، وقد يلغي قرارات سابقة ، ولكنه بالتأكيد يبدأ التاريخ من جديد ، وتحسب الدنيا كلها من بدء توليه العمل .
عيب ذلك أننا لا نستفيد من تجارب من سبقونا، ولا نبني على انجازاتهم ، ولا نسترشد حتى بأرائهم. ان الإنسان إذا فورق بالفئران وجدناه أكثر ذكاء كثير ، فالفئران لا تتعلم من التجربة ولا تستفيد منها، وما زال بإمكانك أن تدخل الفأر في المصيدة بنفس الطريقة التي أدخلت بها أباه وجده ولكنه لا يتعلم ، أما الإنسان فيغير حتى أنه أكثر ذكاء ، وأكثر استفادة من تجارب من سبقوه .
ان ما سبق يمثل فقط بعض جوانب الثقافة العربية التي نعتبرها سلبية ومعوقة لتحقيق التميز في الاداء . هذه الجوانب تحتاج الى تطوير .. تطوير حقيقي وبات .

5- مداخل تطوير الثقافة العربية لتحقيق التميز ؟
5/1- ديناميكية الثقافة
أوضحت آنفاً أن الاستعارة الثقافية تحدث طول الوقت بفعل احتكاك الثقافات، فكل احتكاك يتولد عنه نقل أنماط واستيعاب وإدماج وتكييف – هذه هي ديناميكية الثقافة .
ومع ذلك فإن كل تغيير في أن أنماط الحياة والسلوك يقابل بالمقاومة أكثر من الترحيب – فالإنسان يحب التغيير ويقاومه في نفس الوقت . الإنسان يمل من الجمود والتكرار والرتابة ، فإذا أتيت له بتغير كان رد الفعل الأول هو المقاومة . والمقاومة قد تنتج من عدم الفهم، أو من الغموض، أو من تهديد المصالح، أو من التعارض الشديد للجديد مع أنماط ومعتقدات مستقرة، أو لان التغيير لم تصاحبه خطة ترويج واقتناع مناسبة، أولأن التغيير جاء فجأة ودون تحضير، أو لغير ذلك من الأسباب.
تختلف درجة المقاومة :
• حسب درجة الاهتمام بالموضوع ؛
• حسب درجة تحدي الجديد للقديم ؛ و/أو
• حسب عمق ورسوخ القيم .
فمثلاً إذا أردت تغيير نمط ممارسة العبادات في المساجد ستجد مقاومة أكبر بكثير من حالة تغيير مواعيد العمل المتعارف عليها، وتغيير أنماط ملابس السيدات أسهل بكثير من تغيير أنماط قضاء وقت الفراغ .
أود التنويه أيضاً إلى أن التغيير في أنماط الاستهلاك عادة ما يكون أسرع من غيره من المجالات، ويرجع ذلك لواحد أو أكثر من الأسباب التالية :
• مسايرة الموضة، فلا تطيق غالبية السيدات مخالفة الموضة .
• اتخاذ الملبس الجديد كرمز لرقي الطبقة أو للثراء .
• مركب النقص أمام الأنماط الأجنبية، والأصل أن الأجنبي غريب ونقاومه، ولكننا عادة نرحب به .
وحكاية التمسح في الأجنبي أو التمسك به في الثقافة العربية تحتاج الى وقفة فتجد العادى أن المستهلك يفضل السلعة الأجنبية على السلعة المحلية مهاما نادينا بتشجيع المنتج الوطني، بل إن السلعة الأجنبية اذا تم تجميعها محلياً أصبحت مرفوضة أيضاً ، لأنها "مضروبة" ينبع كل ذلك في تقديري من عدم الثقة في حرص المنتج المحلي على الإتقان. كيف نغير هذا الميل؟ بنشر ثقافة الإتقان .
5/2- هل يمكن تغيير الثقافة العربية ؟ وكيف؟
الإجابة بالقطع نعم، ويشجعنا على ذلك ما نلاحظه من أن إيقاع الحياة أصبح أكثر استعداداً للتغيير من قبل . ونرصد مثلاً :
• سرعة تعميق التوجه الديني وارتداء الحجاب في الـ 20 سنه الأخيرة .
• سرعة تغير أذواق الموسيقى والغناء في الـ 10 سنوات الأخيرة .
• سرعة انتشار الحديث عن الإصلاح والديموقراطية في الـ 3 سنوات الأخيرة.
التغيير أصبح أسرع إذن ويعطي ذلك الأمل في إمكانية تطوير السلبيات في الثقافة العربية لدعم التميز في الإدارة .
كيف يمكن تحقيق ذلك ؟
• نماذج حقيقية للتميز ، حيث يتعرض الإنسان والمدير العربي للتعرف على والاحتكاك بمؤسسات متميزة من خلال ثقافة تميز مناسبة بالمؤسسة. لقد حققت الكثير من الشركات الدولية العاملة بمنطقتنا نجاحات كبيرة وتميزاً واضحاً لان بها ثقافات تميز واضحة. المطلوب هو إبراز هذه النماذج و الدعوة للاقتداء بها . أن نجاح هذه الإدارة المتميزة وهى تعمل داخل الثقافة العربية دليل حاسم على إمكانية التغيير .
• القدوة على مستوى الأفراد، وذلك ممكن إذا نحن وجهنا الاهتمام الكافي لحسن اختيار القيادات واعدادهم فيكونون قدوة لغيرهم في الأنماط السلوكية التي يتحلون بها .
• تطوير نظم التعليم والتدريب لتنمية القيم المواتية للتميز .
• الدعوة المباشرة وغير المباشرة لنبذ الأنماط السلوكية السلبية .
• تنمية قيم الشفافية و المساءلة و تداول السلطة .


مقدمة من
أ.د. صديق محمد عفيفى
أستاذ ادارة الاعمال
رئيس أكاديمية طيبة – مصر