الرؤية الإسلامية لدور الإنسان و مسؤولياته في مواقف العمل.
خلق الله سبحانه و تعالى الإنسان من صلصال من حمإ مسنون و سواه و نفخ فيه من روحه و أمر الملائكة أن يسجدوا له كما جاء في قول الحق عز وجل " و إذ قال ربك للملائكة أني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون ، فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " (1)، وكانت حكمة الله سبحانه و تعالى في خلق الإنسان أن يكون خليفته في الأرض، حيث يقول تبارك و تعالى " و إذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة" (2)، كذلك أمر الله سبحانه و تعالى جميع خلقه أن يعملوا " و قل إعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون" (3)، وقد ورد الفعل "عمل" و تصريفاته 359 مرة في القرآن الكريم مما يدل على عظمة و أهمية العمل كفريضة إسلامية يبغي بها الإنسان صالحه و صالح العباد بما يرضي الله عز وجل، و يلتزم أوامره و يتجنب نواهيه.
و يعتبر موقف العمل هو من أشرف و أهم المواقف التي يتواجد فيها الإنسان لكي يحقق ذاته، و ينتج ما يفيده و يفيد الناس مع التزام ما يرضي الله سبحانه و تعالى و يستجيب رحمته، و يتجنب غضبه و نقمته، كما أن علاقة العمل التي تربط الفرد بأناس غيره من رؤساء و مرؤوسين و زملاء و متعاملين من داخل موقع العمل و خارجه، هي من أعظم العلاقات شأنا لما لها من ثأتير في حياة الناس و ما يحققونه من نفع أو ضرر لأنفسهم و غيرهم من البشر.
المطلب الأول: التفكير و أعمال العقل
يرى العقاد إن العقل الإنساني كما يراه القران الكريم يتضمن جوانب ثلاثة متكاملة، في العقل الوازع الذي ينهي الإنسان عن أفعال ويحول بينه و ما يشتهيه على أساس أخلاقي، و العقل المدرك الذي يتفهم الأمور و يتصور ما يدور حوله، ثم العقل المفكر الذي يتدبر و يتولى الموازنة و الحكم على المعاني و الاشياء. و مما جاء في القران الكريم عن العقل عامة، «و هو الذي يحي و يميت و له اختلاف الليل و النهار افلاتعقلون " (4)، و جاء في القران الكريم عن العقل الوازع قوله سبحانه و تعالى " ولا تقربو الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم و صاكم به لعلكم تعقلون «(5).
_________________
(1) سورة الحجر، الآية (28-29) المصحف الكريم.
(2) سورة البقرة، الآية (30) المصحف الكريم.
(3) سورة التوبة، الآية (10) المصحف الكريم.
(4) سورة المؤمنون، الآية (80) المصحف الكريم.
(5) سورة الأنعام، الآية (151)، المصحف الكريم.

و قد استعرض العقاد في كتابه إلى أكثر من ستون أية من آيات القران الكريم تشير صراحة و في وضوح إلى إعمال العقل بمعناه الشامل بما لا يدع مجالا للشك في إن الدين الإسلامي دين يقوم على العقل و يدعو إلى أعماله و الاحتكاك إليه في كل ما يقوم به الإنسان من عمل و ما يعترضن من مواقف.
و يقول العقاد عن الإسلام انه " الدين الذي يوكل فيه النجاة و الهلاك يسعى الإنسان و عمله و يتولى فيه الإنسان هدايته بفهمه و عقله، و لا يبطل فيه عمل العقل، إن الله بكل شيء محيط فان خلق الإنسان العقل لا يسلبه القدرة على التفكير و لا يسلبه تبعة الضلال و التقصير (1).
و بذلك يتضح لنا إن أوجب واجبات الإنسان المسلم في عمله إن يستعمل عقله و يبدع التفكير
و التدبر في كل ما من شانه إن يعينه على التميز في أداء العمل المكلف به، و يجنبه الأخطاء و التقصير، كما يجب عليه البحث و الاجتهاد من اجل ابتكار أفضل الطرق لأداء ما يكلف به من إعمال،
و التوصل إلى الجديد و المفيد من المنتجات و التقنيات التي تحقق منافع للناس .
و في هذا الإطار هناك عناصر منبثقة عن التفكير و أعمال العقل و هي :
1- الاختيار المسؤول من بين البدائل :
يواجه الإنسان في عمله و في كل مجالات الحياة مواقف تحتم عليه الاختيار و اتخاذ قرار يكون أساسا لتصرفاته في هذه المواقف و الاختيار المقصود ، هذا هو الاختيار المسؤول المؤسس على البحث و التفكير و التدبير و أعمال العقل ، و يصبح امتلاك الإنسان لعقل سليم ، و سيلته الاختيار ، و لا سبيل له للتنصل من تلك المسؤولية ، فحتى الإيمان و الكفر هما اختيار الإنسان إذ يقول الحق تبارك و تعالى " و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر" (2) كما يخاطب الحق رسوله الأمين ومن شاء صلوات الله و سلامة " ومت أكثر الناس و أو حرصت بمؤمنين" (3) كما يقول عز من قائل " و كأين من آية في السموات و الأرض يمرون عليها و هم عنها معرضون" (4) ، إذن نستخلص حقيقة مهمة و هي أن العامل المسلم بينها على هدى من كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم ، وأن يتحمل مسؤولية اختياره، وهو في هذا الاختيار يستثمر العقل الذي وهبه الله إياه و يحاول تبين الرشد من الغي، و يستكشف المنافع و المضار، و يؤسس قراره بناء على مجمل التحليل و التفكير في الأمر.

_________________
(1) - عباس محمود العقاد : التفكير فريضة إسلامية ، نهضة مصر للطباعة و النشر و التوزيع بدون تاريخ ص 16
(2)- سورة الكهف ، الآية 29 المصحف الكريم
(3)- سورة يوسف ، غلاية 103 المصحف الكريم
(4)- سورة يوسف، الآية 105 المصحف الكريم

2- الوفاء بالعهود و المواثيق و الالتزام بالوصيات و المسؤوليات:
إذ يعمل الإنسان عقله و بتدبير ما حوله من فرص و مخاطر، و تتبين له البدائل المتاحة له و مابها من مميزات أو مضار و من ثم يقع اختيار على أحدها، ثم يؤكد اختياره بالتقاعد مع جهة عمل معينة يتولى فيها مهام معينة لقاء رواتب و مميزات متفق عليها.
المطلب الثاني: إعداد النفس و السعي لاكتساب المعرفة و المهارة.
يتميز الإنسان المسلم بأنه يستثمر ما أعطاه الله به من عقل و قدرة على التفكير و التعلم و كتساب المعرفة و المهارة، و العامل المسلم لا يبدأ عملا إلا بعد أن يفقه مكوناته و يعد نفسه لأدائه باكتساب المعرفة و التكوين على المعارات اللازمة سواء كان بذل هذا السعي بمبادرة منه و على نفقته ووقته الخاص، أم كان مستعينا في ذلك بإمكانيات و توجيهات جهة عمل يسعى للارتباط بها أو يعمل لديها فعلا، و تأتي آيات القرآن الكريم تدلنا على واجب المسلم في التعرف على الأمور التي هو يصدرها كي يكون على بيئة من أمره فقد جاء أول أمر إلى رسولنا الكريم صلى الله عليه و سلم أن "اقرأ باسم ربك الذي خلق" (1) كما تكرر الأمر الإلهي إلى المؤمنين ينذبر القرآن و النفقة في الدين حتى تكون ممارسة شعائره على علم و بينة، و قد أمر المسلمون بالتماس الرأي و النصيحة من أهل الذكر و أهل العلم، و العامل المسلم إذن مسؤول على تنمية معرفته بالعمل الذي يكلف به، و عليه أن يسعى باستمرار للحصول على المعلومات و اكتساب و تنمية المهارات التي تعينه على حسن الأداء.
و هناك عناصر نتطرق إليها في هذا السياق و هي:
1- الإعداد الأداء و ترتيب مستلزماته.
لا يبدأ الإنسان المسلم عملا دون إعداد و تحضير، و الأصل أن يبدأ بدراسة متطلبات أداء العمل المكلف به، و يجهز المعلومات و الأدوات اللازمة مستعينا بما توفره الإدارة المسؤولة من إمكانيات و مساندة، و لايعني العامل المسلم من هذه المسؤولية أ، يلقى بتبعتها على الإدارة المسؤولة، بل عليه واجب البحث عن تلك الإمكانيات و السعي إلى ترتيبها و تنسيقها و سد النقص فيها سواء بجهوده الذاتية أو بالاستعانة بجهود



______________
(1) سورة العلق: الآية (1) المصحف الكريم .

زملاء في العمل، أو بتذكير الإدارة المسؤولة و المشاركة بالرأي في وسائل تدبير ما يحتاجه العمل من مستلزمات حال قصور إمكانيات المنظمة.
2- بذل أقصى الجهد في الأداء
العمل الصادق المخلص لتنفيذ ما كلف به هو واجب الإنسان المسلم، يلتزم فيه بمواصفات العمل و شروطه من حيث الجودة و السرعة، و التوقيت و الكم و التكلفة، إن أداء العمل على وجهه الصحيح هو من الأمور الأساسية في حياة المسلم، سواء كان هذا العمل من أمور العبادات كالصلاة و الصوم و الحج مثلا، أو من أمور الحياة كالعمل، و الإنسان المسلم لا يملك إلا أن يؤدي الأعمال على وجهها الصحيح حتى تقبل من الله سبحانه و تعالى و يستحق عنها الجزاء، فالحاج يتم مناسك الحج على وجهها الصحيح حتى يكون حجه مبرورا أي مقبولا، و الصائم يلتزم آداب الصيام و يؤديه على الوجه الذي أمرنا الله سبحانه و تعالى به حتى لا يكون نصيبه من الصمو مجرد الجوع و العطش، و الصلاة لها شروط لا بد من الالتزام بها حتى تكون صلاة المسلم صحيحة و مقبولة و ليست مجرد قيام و ركوع و سجود، و بنفس المنطق فان الإنسان المسلم مأمور بالاجتهاد في الأداء و بذل أقصى جهده في عمله حتى يحظى برضا الله عزو جل عنه، و من بعد ذلك يكون قد أوفى بعهده و استحق ما أنفق عليه من أجر و غيره من المميزات .
3- الإتقان و تحري الدقة:
إن الإنسان المسلم يتوخى الإتقان في كل ما يعمل ، و يتوجب عليه إحسان ما يؤديه من مهام حتى يرقى إلى مرتبة استحقاق الأجر إذ يقول الحق سبحانه و تعالى " أنا لا نضيع أجر من أحسن عملا "(01) ، وقد وردت معاني الإحسان بمعنى التجويد و الإتقان و الالتزام بصحيح الأعمال و الأقوال في 194 موضعا بالقران الكريم ، الأمر الذي يدلنا على عظم قيمة هذه الصفة في عمل المسلم، إن العمل الحسن أي الجيد هو العمل الذي يتم وفق المواصفات و الشروط التي حددها المسؤولين عن إتمام العمل و يكون الإحسان و الإتقان هو المعيار الأهم في تقويم قبول العمل من عدمه، و من ثم مجازة القائم بالعمل وفق ذلك التقييم.



___________________
(1) سورة الكهف الآية 30 ، المصحف الكريم


خلاصة :
إن الفكر الإداري الحديث احتوى مفاهيم و توجيهات مهمة كان لها تأثير في تحرير إدارة الموارد البشرية لتصبح في الحقيقة " إدارة رأس المال البشري" و هو الثروة الأهم في المنظمات المعاصرة الواجب الاعتماد و عليها حتى نتمكن من التحكم الأفضل في حركيات المنظمات في تحقيق التفوق على المنافسين، وإنما يعتمد على تفحيل و استثمار باقي الموارد المادية و التقنية في المنظمة.
إن المورد البشري هو ذلك المورد الوحيد الحقيقي، وفي عصر التقنية العالمية و العولمة و الاتصالات و غيرها من مظاهر التقدم المادي، فقد تبينت الإدارة أن مصدر كل ذلك التقدم و العامل الأساسي في صيانته و تنميته و تفعيله هو الإنسان الفرد أو العامل في جماعة من البشر.
إن العقل الإنساني و ما أنعم الله به على الإنسان من نعمة التفكير هي السبيل الوحيد للإنسان، ومن ثم الإدارة لمواجهة التحديات و حل المشكلات و تحقيق الإنتاج اللازم لإشباع حاجياته المختلفة، ومن هذا فان الاهتمام بالموارد البشرية في المنظمات المعاصرة لا يصدر عن اتجاه " إنساني" بمفهوم الداعيين إلى ما يسمى العلاقات الإنسانية بمعنى رعاية البشر و إحسان معاملتهم من منظور الشفقة، و لكن هذا الاهتمام يصدر الآن عن اقتناع علمي بالدور الرائد الذي يقوم به المورد البشري في صنع التقدم و تحقيق الإنجازات العلمية و التقنية و الإنتاجية التي غيرت ملامح الحياة جميعا، و بذلك تتعامل إدارة الموارد البشرية الاستراتيجية مع الإنسان باعتباره المورد الأكثر ندرة و الأعلى قدرة في الإنتاج القيمة المضافة و هي مصدر العوائد لرأى المال و العمل.
وقد يكون عن المفيد لنا جميعا و نحن نتمثل توجيهات الإسلام لحسن التعامل مع الموارد البشرية في موقع العمل، و الغاية في النهاية أن تتكامل ممارسات و أنشطة إدارة الموارد البشرية مع التوجهات الاستراتيجية للمنظمة للتوصل إلى هيكل بشري فعال و قادر على إحداث الأداء الأعلى، كفاءة الذي يتبلور في النهاية في قدرات تنافسية على الانطمة و إنجازات عوائد أفضل بجميع المشاركين فيها من أصحاب رأى المال و العاملين و المتعاملين معها، و المجتمع بأسره و في نهاية الأمر، فانه تقع على عاتق القيادات الإدارية العليا في المنظمات المعاصرة المسؤولية في تطوير و تفعيل النموذج الأنسب لإدارة الموارد البشرية الاستراتيجية في إطار التوجه الاستراتيجي العام للمنظمة.