نظريات الأجور
تعد نظرية الأجور أهم موضوعات علم الاقتصاد فمنذ بداية القرن التاسع عشر, أي منذ نشأة علم الاقتصاد كانت المدرسة الاقتصادية
التقليدية Classique الإنكليزية (دافيد ريكاردو وآدم سميث) تسعى لتقرير حد توازن ثابت يستقر عنده مستوى الأجر في تقلباته في مدة قصيرة.
وقد ذهب دافيد ريكاردوDavid Ricardo إلى أنّ مستوى توازن الأجور يتعادل مع الحد الأدنى الضروري للحياة.
وانطلاقاً من نظرية ريكاردو هذه صاغ لاسال. F. Lassalle قانون الأجور الحديدي وطور ماركس نظريته في العمل والأجر، إذ فرق بين العمل الضروري الذي ينتج العامل في أثنائه قيمة قوة عمله ويتقاضى مقابله أجراً، والعمل الزائد الذي يعود إنتاجه إلى الرأسمالي مالك وسائل الإنتاج .
وتقسم نظريات الأجور إلى مجموعتين:
مجموعة النظريات الليبرالية البرجوازية في الأجور
والنظرية الماركسية في الأجور.
النظريات الليبرالية في الأجور:
تنطلق النظريات الليبرالية في الأجور من مبدأ الحرية الاقتصادية القائم
على أساس أن آلية السوق هي المنظم الوحيد للأسعار
والمحدد للنشاط الاقتصادي.
وتقوم هذه النظريات على عدم التفريق بين العمل وقوة العمل، وهي تعالج الأجر على أنه ثمن العمل الذي يبيعه العامل من صاحب العمل، وهكذا يرى الاقتصاديون الليبراليون أنصار الحرية الاقتصادية أن العامل يبيع كمية معينة من العمل
أي عدداً من ساعات العمل اليومية، مقابل أجر نقدي أو عيني يتفق عليه فردياً أو جماعياً مع صاحب العمل بحرية تامة أو بتدخل من الحكومة
أو المنظمات الأخرى ورعايتها.
ويختلف الاقتصاديون الليبراليون فيما بينهم حول عوامل تحديد الأجر، فقد
ظهرت عدة نظريات في هذا الشأن منها:
نظرية الحد الأدنى لمستوى المعيشة:
يرى أنصار هذه النظرية أن مستوى الأجور يتحدد بما يعادل قيمة المواد والحاجات الضرورية لمعيشة العامل في الحد الأدنى.
ويقولون إن حركة العرض والطلب في سوق العمل كفيلة بالمحافظة على الأجور مدة طويلة في مستوى الحد الأدنى للمعيشة اللازم للمحافظة على حياة العامل. وواضع أسس هذه النظرية هو الاقتصادي الفرنسي تورغو Turgot وتبناها في منتصف القرن التاسع عشر الاقتصادي والزعيم العمالي الألماني لاسال ودافع عنها وسماها «القانون الحديدي للأجور».
وبحسب هذا القانون إذا ارتفع مستوى الأجور عن الحد الأدنى
الضروري للحياة وتحسنت الحالة المعيشية للعمال فإنهم يميلون
إلى التزاوج فتكثر بذلك الولادات، ويزداد عدد العمال ويزداد بالتالي عرض العمل في السوق، مما يقود إلى انخفاض مستوى الأجور إلى الحد الأدنى الضروري للمعيشة أو حتى إلى أدنى منه مؤقتاً. ولكن الأجور لا يمكن أن تبقى مدة طويلة في مستوى أقل من الحد الأدنى الضروري للمعيشة لأن العمال
في هذه الحالة لا يستطيعون إعالة أسرهم فيحجمون عن الزواج
وتقل الولادات فينخفض عرض العمل في السوق وترتفع الأجور إلى مستواها السابق أو إلى أعلى منه.
وهكذا فإن حركة العرض والطلب في سوق العمل تجعل الأجور، في رأي أنصار هذه النظرية، تراوح في حركتها حول مستوى الحد الأدنى الضروري للمعيشة، أي ما يعادل قيمة المواد والحاجات الضرورية لمعيشة العامل.
نظرية إنتاجية العمل:
تنبثق هذه النظرية من النظرية العامة لتوزيع الدخل القومي في الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق،إذ تنطلق نظرية التوزيع من فرضية أثمان عوامل الإنتاج
التي تزعم أن كل من يشترك في الإنتاج يحصل على نصيب منه يعادل إنتاجيته
أي بمقدار إسهامه في تكوين ذلك الإنتاج. لما كان الأجر، بحسب أنصار هذه النظرية، هو ثمن العمل، فإن العامل يحصل على الثمن الكامل للعمل الذي يقدمه، ويتحدد مستوى الأجر مباشرة بإنتاجية العمل.
وقد وضع الاقتصادي الفرنسي جان باتيست ساي
Jean- Baptiste Say أساس نظرية إنتاجية العمل، إذ رأى في الأجر مكافأة على الخدمة الإنتاجية التي يقدمها العامل، وبالتالي فإن العامل
يحصل على أجر يعادل إسهامه في تكوين الإنتاج.
وفي أواخر القرن التاسع عشر حلت نظرية «القيمة - المنفعة» محل نظرية «القيمة - التكلفة»، وترتب على ذلك فهم جديد بأنه ليست للسلعة قيمة
إلا إذا كانت تحمل قيمة استعمالية نافعة ومطلوبة في السوق.
وليس لعوامل الإنتاج - والعمل أحد عوامل الإنتاج - إلا قيمة مشتقة من قيمة السلع التي تسهم في إنتاجها. وبالتالي فإن ما يحدد الأجور هو إنتاجية العمل،
أي ما يعادل نصيب العمل في تكوين الإنتاج.
وفي بداية القرن العشرين طور عدد من الاقتصاديين
ج.ب. كلارك J.B. Clark وفون فيزر Von Wieser وهانس ماير Hans Mayer هذه النظرية فقالوا:
إن ما يحدد الأجر ليس إنتاجية العمل بصورة مطلقة بل إنتاجية وحدة العمل الأخيرة أو الإنتاجية الحدية ، ويقول كلارك إنه في كل فروع
الإنتاج يمارس قانون المردود المتناقص عمله إذ يتزايد الإنتاج بمعدلات
أقل من تزايد العمل الحي المصروف في إنتاجه، وإنتاجية وحدة
العمل الأخيرة هي الإنتاجية الحدية للعمل
وهي التي تحدد مستوى الأجر فيميل الأجر إلى التطابق
مع الإنتاجية الحدية للعمل.
النظرية الاجتماعية للأجور:
يرى أنصار هذه النظرية أن الأجور أداة من أدوات توزيع الدخل القومي
وبالتالي فإن مستوى الأجور في أي بلد يتحدد بعاملين اثنين:
الأول إنتاجية العمل الاجتماعي التي تحدد الناتج الإجمالي الذي يتم اقتسامه بين الطبقات الاجتماعية من جهة،
والثاني الوزن الاجتماعي للطبقة العاملة الذي يحدد نصيب العمال من
الناتج من جهة ثانية.
ولا تختلف هذه النظرية في جوهرها عن نظرية الأجور المنظمة أو نظرية الأجور التفاوضية فكلتاهما تفسران مستوى الأجور بمدى قدرة التنظيم النقابيعلى ممارسة الضغط سواء على منظمات أرباب العمل
أو على الحكومات والأحزاب السياسية.

نظرية الأجور المنظمة:
إن جميع نظريات الأجور السابقة لم تستطع بيان الأساس الحقيقي
لتحديد الأجور، وقد بينت أحداث القرنين التاسع عشر والعشرين تزايد قوة الطبقة العاملة السياسية وتأثيرها الكبير في الحياة السياسية والاقتصادية في كل البلدان الصناعية المتقدمة، كما شهدت مستويات الأجور بالمقابل قفزات
لا يمكن تفسيرها بتحسن الإنتاجية أو بتغير الحد الأدنى الضروري للمعيشة
مما أفسح في المجال أمام تطوير النظرية الاجتماعية للأجور إلى نظرية الأجور التفاوضية (اتفاقيات الأجور الجماعية) أو نظرية الأجور المنظمة.
وبحسب هذه النظرية يتحدد الأجر بطريق التفاوض
الفردي بين العامل ورب العمل.
ولأن العامل الفرد في موقف تفاوضي ضعيف، وبسبب زيادة دور المنظمات النقابية العمالية، فقد أصبح مستوى الأجور يتحدد بالمفاوضات بين منظمات أرباب العمل والنقابات العمالية. وبسبب أهمية كتلة الأجور وتأثيرها في حسن سير الاقتصاد الوطني، ودورها المتزايد في تنشيط الاستهلاك وتحقيق التوازن
على مستوى الاقتصاد الكلي، إضافة إلى الأضرار الكبيرة التي تلحقها الإضرابات العمالية في حال عدم الاتفاق بين النقابات وأرباب العمل على مستوى الأجور فقد راحت السلطات العامة تتدخل في المفاوضات وتقوم بدور المنظم لمستويات الأجور في كثير من الأحيان.
النظرية الماركسية في الأجور:
الماركسية نظرية فلسفية اقتصادية يؤلف الاقتصاد السياسي
جزءاً رئيساً فيها ويعد نظرية اقتصادية متكاملة تعالج آلية التطور والتوازن الاقتصاديين، وتعد نظرية القيمة الزائدة (فضل القيمة) حجر
الزاوية في النظرية الاقتصادية الماركسية.
يقسم ماركس عمل العامل إلى قسمين:
العمل الضروري وهو الوقت الذي يصرفه العامل في العمل كي ينتج قيمة المواد الضرورية اللازمة لمعيشته ومعيشة أفراد أسرته، أي لتجديد قوة عمله،
والعمل الزائد وهو الوقت الذي يمضيه العامل في العمل زيادة على وقت العمل الضروري وفيه ينتج القيمة الزائدة أو فضل القيمة التي تعود
إلى صاحب العمل مالك وسائل الإنتاج.
من هنا فإن النظرية الماركسية على الرغم من التقارب الملاحظ بينها
وبين بعض النظريات الليبرالية في ربط الأجور بالحد الأدنى الضروري
اللازم لمعيشة العامل فإنها تختلف عنها في تفسير مستوى الأجور وفي
تفسير النتائج المترتبة على ذلك.
تنطلق النظرية الماركسية الاقتصادية من أن التبادل (البيع والشراء) يتم بين سلع متساوية القيمة وأن الأجر هو قيمة السلعة التي يبيعها العامل إلى صاحب العمل وهو قوة عمله أو قدرته وأهليته للعمل. وهكذا فإن العامل لا يبيع الرأسمالي عمله
بل يبيعه قدرته على العمل، أي قوة عمله،
لأن العامل بذاته ليس سلعة قابلة للتبادل للأسباب التالية:
ـ إن لكل سلعة قيمة، والعمل ليست له قيمة بذاته ذلك أن القيمة هي العمل المجرد المتجسد في السلعة، والذي يظهر في عملية التبادل. وهكذا يكون من غير المقبول الحديث عن قيمة العمل بذاته، وهو ليس سلعة منفصلة قائمة بذاتها.
ـ إن السلعة موجودة فعلاً قبل دخولها عملية التبادل أما العمل فهو غير موجود في لحظة عملية البيع والشراء وإنماالموجود بحوزة العامل هو قدرته على العمل وهي التي يبيعها إلى صاحب العمل.
ـ إن عملية بيع العمل وشرائه تتناقض بالضرورة مع القوانين الاقتصادية الفاعلة في الاقتصاد الحر. فإذا عُدّ العمل سلعة، يجب أن يدفع ثمنه كاملاً بحسب قوانين التبادل السلعي. وإذا حدث ذلك فلا يستطيع صاحب العمل الحصول على أية قيمة إضافية. وهذا يتناقض مع سعي الرأسمالي وراء الربح. لذلك ترى الماركسية أن ما يبيعه العامل هو قوة عمله التي تتحدد قيمتها وفقاً لقانون القيمة. وبذلك يكون الأجر شكلاً متحولاً لقيمة قوة العمل. وتتحدد قيمة قوة العمل، كقيمة أية سلعة أخرى، بكمية العمل الاجتماعي اللازم لإنتاجها
ولما كانت قوة العمل سلعة ذات صفات خاصة وإنتاجها وتجديد إنتاجها مرتبطين بوجود
الشخص الذي يحملها وحياته ويتحققان بإشباع حاجات العامل فإن قيمة قوة العمل هي قيمة جميع السلع والخدمات اللازمة لإشباع حاجات العامل من أجل معيشته وتجديد قوة عمله، ويكون أجر العامل معادلاً لثمن جميع السلع والخدمات اللازمة لتجديد قوة عمله، ويكون الأجر شكلاً متحولاً لقيمة قوة العمل.
وعلى الرغم من التشابه بين النظرية الماركسية في الأجور ونظرية الحد الأدنى لمستوى المعيشة فهما تختلفان فيما بينهما، فالأخيرة تقصر حاجات العامل على السلع المادية في حين تدخل النظرية الماركسية في حساب قيمة قوة العمل، في مكونات الأجر، العنصر التاريخي والأخلاقي، إذ يجب أن يتطور مستوى الأجور
بما يتفق مع مستوى النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي.
وقد عارض ماركس صراحة في كتابه «نقد برنامج غوته» قانون الأجور
الحديدي الذي طرحه لاسال. فهو يرى أن قيمة قوة العمل ترتفع مع الزمن بسبب التقدم الاقتصادي وارتفاع المستوى الثقافي ومستوى الرفاه، وكذلك بسبب
إدخال سلع استهلاكية جديدة، وبسبب تزايد شدة العمل ووتيرته
نتيجة إدخال أساليب جديدة في تنظيم العمل، مما يجعل العامل مضطراً
إلى صرف مجهود عضلي وذهني أكبر، وبالتالي حاجته إلى الراحة والاستجمام،
وكل ذلك ينعكس زيادة في قيمة قوة العمل، وفي الأجر الذي يجب أن يكون معادلاً لها.