تعليق مختصر على مخطوط المصحف الشريف الذي ظهر في برمنجهام، وأرجعوه بالفحص إلى زمان الخلفاء الراشدين، وكثر الكلام فيه من غير ذوي الدراية؛ فأقول:
لا أناقش هنا صحة تحديد زمان كتابة هذه النسخة، ولمعرفة ذلك طرق علمية واضحة، متعلقة بطريقة الكتابة والإعجام والتشكيل والتعشير والفواصل ونوع المكتوب عليه، وغير ذلك مما يعرفه أهل التخصص، ولم يسلكه هؤلاء الغربيون، فلا عبرة بتحديدهم زمان كتابته مع تجاهل هذه الأمور القطعية التي هي من صلب المنهج العلمي وفي أعلى درجات التوثيق..
ومع ذلك فإني أكتب ما أكتب -باختصار- بناء على فرض صحة كتابة النسخة في عهد الخلفاء الراشدين، أو على فرض ظهور نسخ أخرى تصح نسبتها:
١- ثبوت القرآن عند المسلمين وثقتهم القطعية فيما بين أيديهم= ليس شيء منه متوقفا على وجود نسخ كهذه، وحتى لو فرضنا عدم المخالفة مطلقا= فإن ذلك لا يزيدنا يقينا، ولو فرضنا المخالفة= لم يزعزع يقيننا قيد أنملة.
فأنا هنا لا أكتب تحسبا لوقوع مخالفة؛ بل أكتب حتى على فرض الموافقة التامة..
فإن ثبوت القرآن مبني على: تواتر النقل والسماع، وتواتر ما في المصاحف المكتوبة الآن، وأنها هي المصاحف العثمانية التي توزعت على أمصار المسلمين،
والعبرة هنا بهذا الذي يحفظه الغلمان في الكتاتيب ويقرؤه المصلون في المحاريب، لا يخرمون منه حرفا، ولا يترددون في ثبوت حرف منه ولو نفاه من نفاه؛ عمدا أو سهوا، ويجمعون إجماعا قطعيا على تكفير من أنكر لفظة منه.
وليس شيء من ذلك مبنيا على نُسخ خاصة ولو عُرف ناسخها ومتملكها، فضلا عما إذا جُهل ذلك!
ومن السخف أن تأتي بعد نقل كتاب بتواتر وإجماع قطعي على مدى أكثر من ١٤٠٠ سنة؛ لتفرح بتأيده بنسخة توافقه، أو تزعم خلله بنسخة تخالفه.
يبين ذلك الوجوه الآتي ذكرها.
٢- إذا حصل اليقين بناء على وجود التواتر= فلا معنى للتوقف على مزيد إخبار لتحصيل اليقين؛ إذ هو حاصل بالفعل، ولا معنى للطعن في اليقين بمخالفة آحاد مهما كانت الثقة فيها، وهذا أمر لا ينازع فيه عاقل، بل من نازع في ذلك سقطت مكالمته أصلا، وهو كمن يطعن في وجود بلد اسمه (جزر المالديف)؛ لعدم رؤيته، أو لنفي بعض الآحاد!
والتواتر لا يشترط فيه إسلام المخبرين ولا عدالتهم ولا اختلاف دينهم، كما هو معلوم في مبحث التواتر في الأصول وعلوم الحديث.
وبهذا تعلم أن وجود هذه النسخة لا يفيد في يقيننا فيما بين أيدينا، وعدمها لا يضر، ومخالفتها -لو فرضت- لا قيمة لها.
٣- تطابق المسلمين عبر هذه القرون المتطاولة؛ من حفظة وقراء ومفسرين ولغويين وغيرهم فضلا عن العوام؛ على هذه المصاحف= ينفي أدنى شبهة لدى العقلاء في التعويل على نسخة آحاد في زيادة يقين أو نفيه!
فكيف إذا أضيف لذلك توفر الدواعي على التشكيك في القرآن؛ من غير المسلمين، ومن الزنادقة وأشباههم، فلو وقف واقف عبر هذه القرون على شيء علمي يطعن به= ما تردد لحظة، وما خفي ذلك على الناس!
بل هذه النسخة وما يشبهها مما يؤكد ما أقوله؛ فإن الذي حصل فقط أنها اكتشفت الآن، لكنها موجودة من قديم، فلو كان التعويل عليها وعلى أشباهها إثباتا أو قدحا مما يفيد في المنهج العلمي= ما خفي أمرها من الطرفين: المسلمين وخصومهم، وحينئذ ففي حال التعويل على المخالفة= سيشيع أمرها، وفي حال التوقف في اليقين على الموافقة= سيحتفظ المسلمون بهذه النسخ ويتواصون بحفظها ونقلها، وكل ذلك لم يكن!
٤- لا يمكن إنكار وقوع الخطأ في آحاد النسخ الخاصة من القرآن، بل إنكار هذا مكابرة، وليس حفظ الله لكتابه متضمنا حفظه من تحريف شخصي يقع فيه من آحاد الناس؛ في قراءة أو كتابة، عمدا أو خطأ، ولا يقول عاقل بهذا، وإنما الحفظ حفظ عام في عموم الناس في كل زمان ومكان، بحيث لا يمكن رواج هذا الخطأ على الناس جميعا في زمان ما أو مكان ما بلا إمكانية التصحيح؛ بل يبقى عدد التواتر ينكرون هذا الخطأ، وتبقى نسخ متواترة تبين الصواب!
٥- وقد نص الفقهاء في أبواب البيع، عند كلامهم على فسخ البيع بالعيب: أن سقوط آيات يسيرة من المصاحف ليس عيبا يرد به المصحف على ناسخه!
وعللوه: بأن ذلك معتاد!
فمن المعتاد نسيان القارئ مهما بلغ حفظه، وانتقال بصر الناسخ، وليس شيء من ذلك مؤثرا في نقل القرآن بالتواتر، لأن التعويل في هذا ليس على الآحاد، كما سبق بيانه.
وبناء عليه: فلا يمتنع الخطأ في نسخة موجودة عند آحاد الصحابة، فضلا عمن بعدهم، ولا إشكال في هذا الخطأ أصلا، كما أن الموافقة لا يعول عليها في الإثبات بعد ما حصل اليقين من أول الأمر؛ هذا بعد تجاوزنا الخلاف المتفرع على مسائل النسخ واختلاف القراءات وغير ذلك.