يستهدف قانون التأمين الاجتماعي توفير الحياة الكريمة للمؤمن له بعد تقاعده ولأسرته بعد وفاته.


وفي ظل القانون رقم 79 لسنة 1975 فإن معيار الحياة الكريمة التي يجب كفالتها للمؤمن عليه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأجر الذي يحصل عليه المؤمن عليه خلال حياته المهنية أو الحرفية.


فالحق في التأمين الاجتماعي يرتبط بممارسة نشاط بأجر أو بصفة عامة بممارسة نشاط مهني أو حرفي، وينظر للتأمين الاجتماعي على أنه الوسيلة التي تكفل للشخص دخلا يحل محل ما يفقده من أجر نتيجة التقاعد أو تحقق الخطر المؤمن منه عادة.


فالتأمين الاجتماعي يرتبط بالعمل وأصبح حقا من حقوق العمال سواء في القطاع الحكومي أو القطاع العام أو القطاع الخاص على حد سواء بل ودون تفرقة في المعادلة والحقوق بين هذه القطاعات الثلاثة.


ولهذا فإن نجاح وجدية وواقعية قانون التأمين الاجتماعي ترتبط بأن يحقق للعامل عند تقاعده أجرا يقترب إلى حد كبير بما كان يتقاضاه من أجر قبل التقاعد. فالتأمين الاجتماعي يقوم على أساس المعاوض حيث يستهدف تعويض المؤمن له عما فقده من دخل بسبب التقاعد أو العجز وأن يوفر لأسرته الدخل المناسب في حالة الوفاة.


فهل حقق قانون التأمين الاجتماعي هذا الهدف أم لا؟ والإجابة على هذا التساؤل تستوجب التعرض لأمرين، الأمر الأول مفهوم الأجر الذي يتم تحصيل الاشتراكات على أساسه، ثم حساب المعاش في ضوء هذا الأجر.




مفهوم أجر الاشتراك يخرج قانون التأمين الاجتماعي عن الواقعية
ويحول الحماية التأمينية إلي حماية صورية


المفروض أن يكون أجر الاشتراك هو أجر المؤمن عليه أيا كانت المسميات وأيا كانت قيمته. فالذي يكفل الحياة الكريمة للمؤمن عليه بعد تقاعده هو الحصول على أجر يتماثل قدر الإمكان مع ما كان يتقاضاه من أجر، فالأجر في الاتجاه الحديث ليس مجرد مقابل عمل بل أنه أيضا من قبيل النفقة، فالأجر يتمتع في قانون العمل بما يسمى بالطابع الحيوى أو الإنساني أو الغذائي بمعنى أنه يجب أن يوفر للعامل قدرا أساسيا من الحياة الكريمة حتى لو كان ذلك يستوجب حصوله على ما يزيد عن العمل أو أحيانًا في حالة الوقف عن العمل، ولهذا يستحق العامل ما يسمى بعلاوة غلاء المعيشة، ويستحق الأجر في حالات عدة يتم فيها وقف العمل مما يستحق العامل الأجر حتى لو لم يعمل بسبب أو لآخر وفقا لما هو معروف في قانون العمل.
والواقع أن المشكلة بدأت من قوانين التوظف للعاملين في القطاعين الحكومى والقطاع العام، ومن قانون العمل بالنسبة للخاضعين له.
فمصر تختلف عن غيرها من الدول في تعقيد فكرة الأجر بالرغم من أنها تتسع قانونا لكل الصور، فالمبلغ الذي يحصل عليه العامل أو الموظف تتعدد مسميات كل مكون من مكوناته من بدلات وحوافز ومزايا عينية وغلاء معيشة وبدل طبيعة عمل واغتراب وخطر ومسميات أخرى لا نهاية لها، والكارثة ليست في تلك التعددية وإنما خضوع كل مكون أو مسمى لأحكام قانونية تخرج بعضها من مفهوم الأجر، تارة لمصلحة العامل كعدم خضوعه لضريبة معينة، وتارة أخرى للتغطية على أن هناك تعديل أو زيادة في الأجر حتى لا تطالب فئات أخرى بالمعاملة بالمثل وإلى غير ذلك.
والنتيجة الأساسية هى تشتت الأجر ولم يعد مفهومه يتفق مع كل ما يقبضه العامل من مبالغ يتعيش منها في يومه وغده.
والمشكلة ليست بالخطيرة في إطار قانون العمل أو العاملين لأن العامل في نهاية الأمر يتقاضى هذه المبالغ المالية وتكون دخلا له يتعيش منها، وحيث لا يتوقف الإنفاق على المسمى الذي يطلق على المبلغ. فالعامل مثلا يقبض ألف جنيه كدخل له حتى ولو اعتبر الأجر من الناحية القانونية مبلغاً يقل عن ذلك بكثير.
أما الكارثة الكبرى فتظهر في قانون التأمين الاجتماعي حيث تتحدد الحقوق التأمينية في ضوء الأجر، فإن زاد ما يعتبر أجرا ازداد المعاش والعكس صحيح.
فلم يكتف قانون التأمين الاجتماعي بأن يتآمر بالتلاعب في مفهوم الأجر في قوانين العاملين، وإنما أضاف إليه اعوجاجا آخر. فقد اعتنق مفهوما لأجر الاشتراك يختلف عن مفهوم الأجر في قانون العمل.
ونظرا لما سبق بيانه من عيوب قوانين التوظف والعمل ذاتها فإن نصوص قانون التأمين الاجتماعي ظاهرها الرحمة وباطنها القسوة؛ الرحمة تتمثل في أن قانون التأمين الاجتماعي يحدد الأجر للعاملين في الحكومة والقطاع العام بالمرتبات المحددة في الجداول المرفقة بنظم التوظف التي تسرى عليهم، وبالنسبة للعاملين في القطاع الخاص بما ورد في عقود عملهم. أما القسوة فتبدو من أن جداول المرتب الأساسي لا تشمل سوى الفئات أو أقل منه بالنسبة لمجموع ما يحصل عليه العامل من مبالغ شهرية تحت مسميات مختلفة.
وقد يقول قائل بضرورة عدم التعجل فهناك إلى جانب الأجر الأجر المتغير. وهنا تظهر عجائب قانون التأمين الاجتماعي. فهناك من المبالغ التي تستبعد من الأجر مثل بدلات المقابل العينية وهى جزء من الأجر في قانون العمل أما باقي أنواع الأجر المتغير فمنها ما يحسب في أجر الاشتراك بنسبة 100% وهناك ما يحسب بنسبة 50%، ويمكن للتنظيم النقابي أن يزيد الأخيرة إلي 75% أو 100%.
ويبلغ التحكم مداه، وإن كانت قد فرضته ظروف التلاعب في تطبيق القانون من قبل بعض أصحاب الأعمال في فكرة الأجر الحكمى التي زادت من أعباء بعض أصحاب الأعمال خصوصا المقاولات. واختلف أساس تقدير حصة صاحب العمل في الاشتراك عن أساس تقدير حصة العامل مما أفقد القانون تماسكه وظهر بمظهر من يجبى الأموال وليس المؤمن.
وهذا كله يتضاءل أمام كارثة وضع حد أقصى لأجر الاشتراك فأيا كان الأجر وفقا لمعايير قانون التأمين الاجتماعي فقد وضع المشرع حدا أقصى لأجر الاشتراك عن الأجر الأساسي وهو ثلاثة آلاف جنيه سنويا، وحدا أقصى للأجر المتغير وهو أربعة آلاف وخمسمائة جنيه سنويا بحيث لا يزيد أجر الاشتراك في كافة الأحوال عن سبعة آلاف وخمسمائة جنيه سنويا.
وهنا تبدأ الصورية والوهمية في الحماية التأمينية، فالأجر هو أساس احتساب حقوق العامل التأمينية، فإذا أعرضنا تماما ما يحصل عليه من أجر ولو بمفهوم القانون الذي يحيطه النقد من كل جانب فإنه مع ذلك يجب أن يضف حد الحياة الكريمة عن 7500 جنيه فإن زاد أجره عن ذلك تجاهلنا الزيادة. ولا أجد أى منطق لهذا؟!!


حساب المعاش في ضوء أجر الاشتراك
مرحلة أخرى لإضفاء الطابع الإنساني للقانون


ظاهر نصوص قانون التأمين الاجتماعي الإنسانية الكاملة، ولهذا يقرر المشرع أن المؤمن عليه يحصل عند التقاعد على 80% من أجر الاشتراك وهذا في حد ذاته لا غبار عليه لأن خصم نسبة 20% قد يكون مقابل التخفيف من أعباء الوظيفة كالانتقالات، وكذلك مقابل إعفاء الحقوق التأمينية من أى ضرائب، فهناك مبرر قد يكون معقولا وإن كان هناك من الأعباء الأخرى التي تظهر مع التقاعد خصوصا في مجال العلاج الذي مازال التأمين الصحى لا يواجهه بما ينبغى.
أما الأجر الذي يحتسب على أساسه المعاش فهو ليس آخر أجر تقاضاه وإنما هو متوسط الأجر عن السنتين الأخيرتين.
وهذا بدوره انتقاص من الطابع الإنساني لأن العامل لم يكن يتعيش من متوسط أجره عن فترة سابقة وإنما من آخر أجر تقاضاه وهو قد سدد الاشتراكات عن آخر أجر تقاضاه. ولماذا يحتسب المعاش على أساس أجر آخر.
ولهذا نجد بعض الفئات تعامل في تشريعات خاصة معاملة أفضل سواء باحتساب الأجر على أساس آخر أجر تقاضاه أو باحتساب المعاش بنسبة 100% من هذا الأجر.
وأخيرا يضع المشرع حدا أقصى رقمى أى لا يتجاوز المعاش عن الأجر الأساسي 200 جنيه شهريا ويضاف إليه العلاوات السنوية، أما المعاش عن أجر المتغير فلم يوضع له حد أقصى رقمى وإنما جاء الحد الأقصى من أن أقصى مبلغ لأجر الاشتراك هو 4500 جنيه والمعاش 80% من هذا المبلغ سنويا أى 300 جنيه، أى أن أقصى مجموع المعاش لا يزيد عن 500 جنيه سنويا يضاف لها العلاوات السنوية.




الخاتمــة


من العجب أن المشرع إحساسا منه بقسوة وعدم كفاية الحقوق التأمينية للعاملين الخاضعين للقانون 79 لسنة 1975، أصدر قانونا للقادرين على توفير حماية حقيقية للعاملين لديهم وهو قانون صناديق التأمين الاجتماعي البديلة في 1980، فأصبح يوجد لدينا مؤمن عليه عادي يعانى من القسوة، ومؤمن عليه سوبر أنقذته جهة عمله من مهانة قانون التأمين الاجتماعي بإقامتها نظاما بديلا يكفل له القدر الملائم من الإنسانية حيث لا يتقيد باللامعقول الذي يسيطر على القانون 79 لسنة 1975 .


ومن هنا يظهر التساؤل، هل المشكلة مشكلة تمويل تجد الدولة فيها غدرا لتلك الحماية الوهمية والقاسية.
الرد على ذلك يسير وهو أننا بصدد نظام للتأمين الاجتماعي يقوم على ما يسدد من اشتراكات، فهو ليس بإعانة أو إحسان، ولكن إذا نزلنا بأجر الاشتراك إلى ما يخالف حقيقة ما يقبضه العامل فإن ذلك يؤدى بالضرورة إلى ضآلة وصورية المعاش، فالعلاج في إعادة النظر في أجر الاشتراك والاتجاه إلى الواقعية بمساواته بما يحصل عليه العامل من أجر بمسمياته المختلفة. حينئذ تزداد الاشتراكات والتمويل يتوافر، ثم يرد ذلك كله في صورة معاش إنساني يكفل الحياة الكريمة للشخص وهو الهدف الوحيد وليس الأساس لقانون التأمين الاجتماعي.


وحتى لا توصف هذه الملاحظات بأنها تتجاهل الواقع المتمثل في أن زيادة الاشتراك كنتيجة لتعديل مفهوم الأجر بالزيادة تؤدى بالضرورة إلى نقص في المبلغ الذي يقبضه العامل وهو قدر الزيادة قسط الاشتراك، وهذا يؤدى إلى عدم رضاء لدى العامل الذي يهمه ويؤثر فيه أنه قد نقص دخله وقد لا يقنعه أن ذلك لمصلحته في المستقبل وحيث قد يعمل المثال القائل (عيشني النهاردة وموتني بكرة)، وقد يستتبع ذلك اعتراضات عمالية نحن في غنى عنها ولقد تحقق ذلك في سنة 1984 عند إضافة الأجر المتغير للاشتراك.
وهذا في واقع الأمر يحتاج إلى إقناع الناس بالتأمين، فهذه ليست مشكلة التأمين الاجتماعي وحده، وإنما يعانى التأمين عامة من عدم وجود الوعى التأميني.
بل إننا نعلم جميعا أن العمال في القطاع الخاص يقبلون التأمين على أساس الحد الأدنى لأجر الاشتراك حيث يحقق مصلحة العامل في عدم خصم نسبة كبيرة من الأجر مقابل الاشتراك، ومصلحة صاحب العمل في تقليل ما يلتزم به من حصة في الاشتراكات.
والخلاصة مما سبق أن مفهوم أجر الاشتراك وحدوده وفقا لقانون التأمين الاجتماعي، قد سلبت القانون من كل جدية وأصبح التأمين وهميا، ولا يتقاضى صاحب المعاش سوى مبلغا لا يزيد عن ثلث أو ربع ما كان يتقاضاه عن بلوغ التقاعد.


ومن هنا ظهرت مشكلة السعى إلي البقاء في الخدمة تحت مسميات مختلفة، فهو سعى للوصول إلى الحياة وليس لمطامع الوظيفة، ولو صلحت فكرة الأجر ما كان هناك حاجة للبقاء في الوظيفة حيث يحصل المتقاعد على ما يقرب مما كان يتقاضاه وهو يحصل عليه مقابل اشتراكات سددها وليس إحسانًا أو تفضلاً من أحد.