يدور في هذه الأيام في أروقة البيت الأبيض مشاورات كثيرة و استعدادات كبيرة و جهود جبارة لإقامة التجمع العالمي الكبير لريادة الأعمال في منطقة الشرق الأوسط بشراكة مع الدول الإسلامية ترجمة ووفاءً بالوعد الذي أعلنه الرئيس أوباما من جامعة القاهرة في خطابه الشهير للعالم الإسلامي في شهر يونيو الماضي حيث قال حينذاك (سوف نكوِّن طليعة جديدة من المتطوعين في مجال ريادة الأعمال مع نظرائهم في الدول الإسلامية وسنعقد مؤتمراً دولياً لريادة الأعمال في العام المقبل ندعو له الدول الإسلامية) هذا التوجه يعكس إدراك دولة كبرى بحجم أمريكا للدور الأساس الذي يمكن أن يؤديه رواد الأعمال في بناء اقتصاديات الدول وتنمية قدراتها التنافسية العالمية. ففي أمريكا ذاتها تحقق مشروعات رواد الأعمال الصغيرة ما يزيد عن 47% من إجمالي المبيعات الكلية و يزيد عددها عن (22 مليون) مشروع صغير غير زراعي كما تقوم بتوظيف حوالي 53% من القوى العاملة. وتساهم بما نسبته 50% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي وتصل هذه المساهمة إلى 43% في كوريا الجنوبية و 56% في تايوان و 60% في الصين و 70% في هونج كونج في حين لا تتجاوز مساهمتها 28% في السعودية.
وتعتبر تلك المشروعات أساسا لتطور الدولة ونمو اقتصادها و تنافسية موقعها الدولي . وقد أوضحت الإحصاءات المنشورة في عام 2006م أن إجمالي الإنفاق على ريادة الأعمال في الولايات المتحدة تجاوز (1.7مليار) دولار ثم قفز هذا الإنفاق ليصل إلى (2.3مليار) دولار عام 2007م. كما قامت منظمات و جمعيات وهيئات ضخمة و واسعة النطاق والانتشار تخدم رواد الأعمال وتتبنى أفكارهم وتمول مشاريعهم و تحتضن أعمالهم وتدعم تطورهم و نموهم حتى أضحت مصطلحات مثل رأس المال المخاطر (Venture Capital) و حاضنة (Incubator) و المستثمر الملاك (Angel Investor) مصطلحات دارجة و شائعة بحجم شيوع تلك الرعاية و الاهتمام برواد الأعمال. وبحسب التقرير الصادر من منظمة كوفمن الشهيرة فإن 70% من الدعم و الإنفاق الذي يحظى به رواد الأعمال في أمريكا يأتي من الجمعيات و القطاع الخاص فحين ساهمت الحكومة الفيدرالية و المحلية بما لا يزيد عن 30% من الإنفاق و الدعم لرواد الأعمال.
ونحن اليوم أمامنا إرادة وطنية صادقة نحو التحول إلى الاقتصاد المعرفي وبناء مجتمع المعرفة والسعي إلى اللحاق بركب التطور التقني و المنافسة العالمية. لكن سنة التدرج في التغيير تقتضي إن ندرك أن بناء المجتمع المعرفي يسبقه بناء الاقتصاد المعرفي كما أن بناء الاقتصاد المعرفي يسبقه بالضرورة ريادة الأعمال كما أن ريادة الأعمال ترتكز أساسها على الإبداع و الابتكار وبغير هذه المنظومة المتكاملة سنظل نحلم بمجتمع معرفي قادم.
كما أن تبني ريادة الأعمال في المجتمعات يرتكز على متطلبات أساسية يمكن إجمالها في أربعة محاور، أولها التربية والتعليم. فالبداية السليمة و الناجعة هي التي تبدأ ببناء فكر الإبداع و الابتكار و ريادة الأعمال من مراحل التعليم الأولي وان تكون تلك الموضوعات مدرجة في صميم مناهج التعليم العام وحاضرة في تطبيقاتها العملية. فالتعليم الأمريكي والأوروبي على سيبل المثال يبدأ في تشجيع الصغار على إنشاء المشروعات و ممارسة البيع و التجارة منذ صفوفهم الأولى حتى أن تجربة Lemonad Stand (بيع عصير الليمون) في أمريكا تعتبر تجربة مثالية شائعة لدى الأطفال في فصل الصيف.
وفي المقابل فإننا حين نعود بالتاريخ إلى الوراء نكتشف أن آباءنا قد استوعبوا أهمية هذه الثقافة التي افتقدناها اليوم. فقد كانوا يحثوننا على ممارسة العمل الحر من الصغر حتى نكاد نجزم أن كل من عاش في حقبة أجيال الخمسينات و الستينات الميلادية كانت له تجربة بيع ريادية صغرى في حيه أو بين أصدقائه أو أمام مدرسته أو في مزرعته أو قارعة الطريق. وكانت الإجازة الصيفية المدرسية فرصة كبرى لا تفوت يكتسب منها الشاب تجربة ثرية لإثبات الذات و القدرة على تبني المخاطرة و الاعتماد على النفس و مواجهة التحديات المالية و الاجتماعية و النفسية مما تفوق أضعاف ما يجنيه من ريالات معدودة. إنها الريادة التي نحرم أبناءنا من ممارستها و التدرب على تطبيقها و خوض تجارب كبيرة في بناء الشخصية العصامية الناجحة.
أما المحور الثاني لدعم ريادة الأعمال فهو مؤسسات القطاع العام و الخاص التي يجب أن تضطلع بدور حيوي كبير في خلق البيئة الصحية التي يمكن أن تنمو فيها مشاريع الرواد. فلا يكفي من القطاع العام التشجيع و التعاطف, ولكن المساندة الأنجع التي ينتظرها رواد الأعمال هي ما قاله كين مورس مؤسس مركز ريادة الأعمال في MIT في محاضرته لشباب الأعمال حين قال ( اشتروا منهم ) وهو ما يطبق بالفعل في الولايات المتحدة عن طريق مكتب الوكالة الفيدرالية "SBA" التي تستوعب ما يقارب (40 مليار) دولار من قيمة منتجات المشروعات الصغيرة لرواد الأعمال سنوياً أي حوالي خمس المشتريات الأمريكية من الأسواق العالمية.
فكان من بينها شركات صغرى أصبحت من كبرى الشركات في العالم وليس أمريكا فقط أمثال ابل و إنتل و فيدرال اكسبريس و كومباك و أمريكا اون لاين.
إننا في حاجة إلى إضفاء مزيد من الثقة و الاعتمادية على الرواد وذلك بإرساء المشروعات و الخدمات الحكومية و مشروعات القطاعات الكبرى في القطاع الخاص كأرامكو و سابك والشركات المساهمة و البنوك التجارية إلى رواد الأعمال. لا أن تكون شروط تلك الخدمات و المقاولات و تصنيفاتها معقده و محصورة في عدد محدود من الكبار.
وما نطمح إليه أن تبادر إحدى جهات التمويل كبنك التسليف و الادخار وصندوق تنمية الموارد البشرية و غيرها من الجهات إلى ضمان المشروعات الصغيرة أمام البنوك في مشروع وطني يمكن أن يفتح الآفاق الواسعة لنجاح الأعمال الصغيرة المتميزة و الإبداعية.
أما المحور الثالث فهو توفر البنية التحتية ونظم المعلومات فافتقاد البنى التحتية كالبرمجية و نظام المدفوعات الالكتروني و الخدمات المساندة ستحول دون نمو المبادرين و القدرة على خلق فرص مشاريع جديدة و التمكن من المنافسة المحلية و الإقليمية. ناهيك أننا نفتقر إلى كثير من المعلومات عن السوق والصناعة و الإجراءات والدراسات السوقية والمسوحات الإحصائية الحديثة الهامة. هذا الداء المزمن و العائق الكبير أمام المنشآت بشكل عام هو في الحقيقة تحدٍ أكبر و عائق أعظم أمام رواد الأعمال. ولم ترتقي جهود الإحصاءات العامة ووزارة التخطيط و الغرف التجارية حتى الآن إلى مستوى توفير المعلومات الدورية الحديثة.
أما المحور الرابع فهو التشريعات والنظم والعمليات الإجرائية الخاصة برواد الأعمال و المشروعات الصغيرة. فخطط التنمية المتلاحقة تؤكد على دعم المنشآت الصغيرة ومساندتها وتسهيل إجراءات إنشائها. و قد توافرت التوصيات و تكاثرت المقترحات المنادية بالتشريعات الخاصة للمنشآت الصغيرة. ونحن نتطلع إلى يوم نرى فيه توحيدا لجهة الاختصاص في الترخيص للمشروع الصغير وتسجيل إجراءات و متطلبات رائدات الأعمال. وإلى سن نظام تكافؤ الفرص و تسهيل استقدام العمالة والاستثناء من عدد من الرسوم. كما يمكن أن تتبنى الدولة فكرة تحديد مجال و صناعة محددة تخصص للمشروعات الصغيرة كما هو الحال في أمريكا حيث خصصت صناعة الخدمات والأثاث التي لا يزيد عن ( 100 ألف ) دولار للمشروعات الصغيرة فقط. فضلاً عن فتح مكتب خاص لتصدير منتجات المنشآت الصغيرة للأسواق الدولية.
إن الطريق طويل و المسيرة بعيدة لكننا نؤمل أن السير على خط مستقيم وإن طال خير من التشتت بين الطرق. مستأنسين بقول آبائنا الأوائل (الجادة ولو طالت!).